كان اليوم يوم جمعة... في ذلك اليوم أراد الناس أن يقتلوا ضميرهم وهم في هذا الذي أرادوه تتمثل نكبة الانسانية الكبري. هذا اليوم العصيب هو يوم صلب المسيح, والذي يروي لنا وقائعه الدكتور محمد كامل حسين في كتابه قرية ظالمة. ما الذي دفع أهل أورشليم إلي قتل من جاء يحمل لهم رسالة الحب والرحمة؟ وماهو العمي الذي أصابهم ليديروا ظهرهم لطوق النجاة الممتد لهم؟ هل يكفي أن نقول إنه التعصب الأعمي؟ لو قلنا ذلك لربما وجب أن نلتمس لهم العذر. وكما يقول سقراط الفضيلة علم والرذيلة جهل. فالمخطئ يرتكب الشر لانه يجهل الخير. ولكن أهل أورشليم, كما يري الدكتور حسين, ليسوا جهلاء.. انهم ظالمون. أما لماذا هم ظالمون.. ينطلق المؤلف في تحليل دقيق للظواهر الاجتماعية وتشريح عميق لبنية النفس الإنسانية. فيرصد لنا ما يدور في مجموعات بشرية ثلاث تشكل سكان أورشليم وهم: بنو إسرائيل وحواريو المسيح والرومان. لماذا صلب المسيح دون جريمة اقترفها؟ بسبب الجماعة, حسبما يري محمد كامل حسين, فالفرد له ضمير والجماعة لا ضمير لها, يمكن للفرد أن يندم بعد اقترافه الإثم أما الجماعة فلا تعرف الندم. والأفراد الطيبون لا يشكلون جماعة طيبة; ويستسيغ الفرد ارتكاب الشر مع الجماعة لأن نصيبه من الجريمة يكون صغيرا. وهكذا حسم صراخ الجماعة الأمر. فبينما كانت الجموع في الخارج تنادي بصلب الرجل نظرا لاجماع علمائهم الذين لا يجتمعون علي باطل, كان هؤلاء العلماء أنفسهم في دار الندوة يقرون بأنهم أخطأوا, ولكنهم رضخوا لنصيحة رجال المال والصناعة الذين نبهوهم إلي أن حكمهم أطلق سيلا من الغضب لن يستطيع أحد أن يقف أمامه, فالشعب هائج ولن تهدأ ثائرته حتي يصلب هذا الرجل. هذا ما كان من أمر بني اسرائيل, أما الحواريون فبالرغم من استقرار الإيمان في قلوبهم واخلاصهم لمعلمهم فإنهم ذهبوا مذاهب شتي إزاء واقعة الصلب حينما أرادوا الإجابة عن سؤال: ما العمل؟ هل يستجيبون لنداءات الوفاء والمروءة ويهبون لنجدة معلمهم وتخليصه من أيدي الرومان أم يلتزمون بدعوته للتسامح ونبذ العنف ويتركون أمره إلي الله. ومن خلال حوارهم الرائع الذي تخيله المؤلف نعرف استحالة ما نسميه الإجماع وخطورة اليقين وفضيلة القلق والتشكك. ألم ير قيافا كبير اليهود أن بيلاطس الحاكم الروماني كان أكثر حصافة عندما أعلن في وجه أعيان اليهود: أتريدون قتله باسم الحق... وما الحق؟. لقد انتهي أمرالحواريين بأن يتركوا المسيح لمصيره وعزموا علي أن ينشروا رسالته في أرجاء الأرض.. فهل كان هذا أفضل اختيار..؟! الرومان الذين كانوا لا يعتقدون ببعث أو حساب بنوا فلسفتهم العامة علي احترام النظام والمجد وحسن السمعة, وجعلوا من الفضيلة أن يضحي الفرد بحياته في سبيل مجد روما والحفاظ علي هيبة الدولة. ألم تتحرك جيوش روما للاستيلاء علي مدينة لأن أحد سكانها سب القيصر في السوق؟! كرس الرومان في الفكر الانساني, أوهام الزهو بالانتصار, والشعور بعار الهزيمة. هي كلها عواطف تدفع الابرياء للفتك ببعضهم بعضا من أجل مجد قادة هم أنفسهم لايقاتلون.. هذا التبجيل للقوة جعل قائد الجيش يحكم علي جندي روماني بالاعدام بتهمة الخيانة لأنه قد أخذته شفقة بجريح من أبناء القرية المحاصرة فحمله وسلمه لذويه ولم يبلغ جيشه الروماني بمداخل القرية. هذا المنطق هو الذي دفع بيلاطس الحاكم الروماني لأورشليم الذي كان في هذا اليوم مرهق النفس بعد أن حمله بنو اسرائيل علي أن يستجيب إلي ما طلبوه من قتل رجل لا يعلم عنه إلا خيرا.. ولكنه لم يكن يري أن يدع حبه للعدل يعرض ولايته لفتنة يعود شرها عليه. هكذا استحكمت الحلقة وتمت كبري جرائم التاريخ: جريمة الحكم علي المسيح بالصلب. الرواية ليست سردا لأحداث ذلك اليوم ولكنها تأملات في قيم البشر ودوافعهم للسلوك. ومن خلال هذه التأملات يقدم لنا محمد كامل حسين أبعاد الثورة الفكرية في رسالة المسيح فهي دعوة لاعلاء الانسانية علي الوطنية ونبذ العنف كما أنها دعوة لإقامة الايمان علي الضمير الفردي الذي يتعارض مع التدين الشكلي ومع النظام العام. فلقد خلق الله الفرد ولم يخلق الجماعة. كما يقدم لنا المؤلف من خلال هذه التأملات رؤيته الخاصة عن العالم. فالانسان يعتقد واهما انه مركز هذا الكون الفسيح وهذا سر الاعتقاد بالمعجزات, فالصاعقة قد تضرب انسانا يصلي كما تضرب إنسانا يهم بارتكاب جريمة, في المرة الأولي يعتبرها البشر قدرا وفي الثانية معجزة إلهية, ولكن أحداث الطبيعة لا تجري لكي تلقي في قلوب البشر الرعب. والايمان لا يرتقي بالنفس إلا إذا ظل فرديا. وفي تحليل الدكتور حسين لعبارة بخصوص امرأة حكموا عليها بالرجم من يكن منكم بلا خطيئة فليرجمها بحجر يري فيها تغليبا للضمير علي النظام.. فإذا كانت الخطيئة خروجا عن حدود الله فله وحده أن يعاقب عليها, وعلي الانسان أن يترك عباد الله له سبحانه يعاقبهم علي الذنوب بقدرته وعلمه الواسع, فما يخالف الدين فأمر الجزاء فيه لله وما يخالف النظام فأمر العقاب فيه إلي الناس علي أن يكون العقاب باسم النظام لا باسم الدين والذين يدعمون النظام بالدين يخطئون في حق الدين.. وليس من العدل أن نتستر وراء الدين لحماية النظام. في هذا اليوم العصيب أتي إلي أورشليم حكيم مجوسي كان قد اهتدي بالنجم فعرف بمولد المسيح واهتدي بأفول النجم فعرف بموته.. كما كان هناك بالمصادفة مسافر من أثينا فيلسوف عقلاني ومن الحوار بينهما عن معني الحقيقة نفهم أن الحقيقة الموضوعية تخص الجماد والحيوان أما الانسان فلا يمكن معرفة حقيقته إلا من خلال الرمز وهو ما يجعل العقائد الميتافيزيقية جزءا من الحقيقة. وفي النهاية يقدم لنا الدكتور الطبيب وصفة للعلاج وهي أن يوازن الفرد بين القوي الثلاث الغريزة والعقل والضمير التي تتصادم فيما بينها حين تسعي إلي الخير ولكنها تتضامن حينما تسعي الي الشر. إن رواية قرية ظالمة من الكتب النادرة التي حين تقرؤها تشعر انها قد كتبت في اليوم الذي تقرؤها فيه, فهي تجيب عن أسئلتك الأكثر الحاحا ولعل هذا ما يجعل الكتاب ليس خاصا بزمن معين ولا حتي بثقافة معينة, لكنه كتاب لكل العصور.