لم يتبق علي الموعد المحدد لاستفتاء جنوب السودان علي حق تقرير المصير المحدد له9 يناير2011 سوي بضعة أسابيع, ورغم ذلك فإن هناك غموضا كثيفا مازال يحيط بكل الملفات المتعلقة بهذه العملية المفصلية في تاريخ السودان, بدءا من موعد الاستفتاء نفسه وهل سيتم في الموعد المقرر له أم سوف يتم تأجيله, مرورا بالخطوات الاجرائية الضرورية المطلوبة لاقامة استفتاء يتسم بالحد الأدني من المصداقية والشرعية, وانتهاء بالخلافات المتزايدة حول القضايا العشر المعروفة باسم قضايا ما بعد الاستفتاء والتي سوف يحدد التوافق عليها من عدمه شكل العلاقة المستقبلية بين دولتي الشمال والجنوب. الانفصال أمر واقع لكي نفهم التفاعلات الجارية الآن في السودان علي نحو صحيح, يجب أن ننطلق من حقيقة مؤداها, أن انفصال الجنوب قد أصبح أمرا واقعا من الناحية العملية, حيث إن الحركة الشعبية لتحرير السودان, تهيمن بالفعل علي الإقليم بشكل كامل علي كل الصعد السياسية والاقتصادية والعسكرية والأمنية. وهذه الهيمنة قد تمت واستكملت أركانها طبقا لاتفاقية نيفاشا الموقعة في يناير2005, والتي منحت هذه الصلاحيات للحركة الشعبية لتحرير السودان, التي قامت بدورها باستخدام السنوات الست التي مضت من عمر الاتفاقية في استكمال بناء أجهزتها الإدارية والأمنية والعسكرية, وفي الانغماس في عملية تسليح وتدريب واسعة النطاق, فأصبح الجيش الشعبي لتحرير السودان يمتلك أسلحة ومدرعات لم تكن متوافرة له من قبل, كما تم استحداث نواة لسلاح الطيران والإعلان عن إنشاء سلاح للبحرية رغم أن الجنوب يمثل إقليما حبيسا. وعلي الناحية الاخري كانت القوات المسلحة السودانية قد انسحبت بالكامل من الجنوب تطبيقا لبروتوكول الترتيبات الامنية في اتفاقية نيفاشا. ومن ثم فإنه في ظل إعلان الحركة الشعبية بشكل صريح ومباشر عن توجهها للانفصال وانه لا مجال للحديث عن الوحدة باي شكل من الاشكال, اصبح من الواضح انه لم يعد من الممكن بالنسبة للحكومة السودانية فرض أي موقف سياسي او قانوني علي الاقليم الجنوبي, إذ ان من شأن ذلك ان يخلق تعقيدات سياسية وامنية هائلة قد تفضي الي العودة الي الحرب الاهلية مرة اخري, وهو أمر لا ترغبه الحكومة السودانية, ولاتستطيع مواجهة تبعاته السياسية والامنية أيضا. وبالتالي أصبح الانفصال امرا واقعا ولم يعد ينقصه سوي استكمال الشكل القانوني المتمثل في إجراء الاستفتاء علي حق تقرير المصير, الذي تحول طبقا لهذه الاوضاع إلي مجرد آلية شكلية مفرغة من المضمون. وقد وصل الأمر بالحركة الشعبية إلي القول بأنها سوف تعلن الإنفصال من جانب واحد إذا تعثرت عملية الاستفتاء لأي سبب من الأسباب, ولم تتوقف الحركة عن إطلاق مثل هذه التصريحات إلا بعد تلقيها نصيحة قانونية من أحد المعاهد الأمريكية المتخصصة, بأن مثل هذا التصرف في حالة حدوثه سوف يخلق لها العديد من الإشكاليات في مسألة الاعتراف الدولي. وعلي ذلك يمكن القول ان عملية إجراء الاستفتاء من عدمها قد أصبحت أداة للتضاغط بين شريكي حكومة الوحدة الوطنية. هذه الأداة يتم استخدامها سياسيا للحصول علي بعض النقاط أو المكاسب سواء فيما يتعلق بقضايا ما بعد الاستفتاء التي لم يتم حلها حتي الآن, أو في إطار ترتيب الأوضاع والعلاقات المستقبلية علي مستوي الإطارين الإقليمي والدولي. إجراءات الاستفتاء أجيز قانون الإستفتاء علي حق تقرير المصير في نهاية ديسمبر2009, بموافقة الحركة الشعبية لتحرير السودان بعد العديد من المناورات التي مارسها الطرفان. هذا القانون يحدد من يحق لهم التصويت في الاستفتاء, كما يفصل الكثير من الإجراءات المربوطة بتوقيتات زمنية, مثل إعداد كشوف الناخبين وإعلانها ثم الطعن عليها ثم إعلان الكشوف النهائية, ويحدد كذلك كيفية تكوين لجان الاستفتاء واجراءات التأكد من شخصية من يحق لهم التصويت.. وغير ذلك من التفاصيل الأساسية مثل تشكيل مفوضية الاستفتاء وصلاحياتها وتمويلها والنسب المطلوبة لاعتبار الاستفتاء صحيحا من الناحية القانونية. ومن المعروف أن مفوضية الاستفتاء يلزمها ستة أشهر علي الأقل للقيام بالإجراءات المنصوص عليها في قانون الإستفتاء. وبالنظر إلي تأخر إنشاء المفوضية بسبب خلافات الشريكين المعتادة, فقد تأخرت كل الاجراءات الجوهرية المرتبطة بقيام الاستفتاء, والتي لم ينجز فيها شئ وذو بال حتي الآن عدا طبع بطاقات الاستفتاء. وبناء علي ذلك فانه من المستحيل من الناحية العملية إجراء الاستفتاء في موعده المقرر في9 يناير2011 بسبب عدم اكتمال الترتيبات الاجرائية من الأصل ناهيك عن نزاهة وحرية الاستفتاء التي تتعلق بعدم حدوث تدخلات أو تزوير واسع النطاق. اللافت للنظر أن الحركة الشعبية لتحرير السودان تؤكد طوال الوقت علي ضرورة قيام الاستفتاء في موعده بغض النظر عن أي مقتضيات أو إجراءات, وهي تعتبر هذا الموعد مقدسا لا يمكن تعديله أو التراجع عنه لأي سبب من الاسباب, بسبب خشيتها في الأغلب من أن أي تأجيل قد يفتح الباب لتأجيلات اخري, وقد يدخل الأمر في متاهة إجرائية مثل تلك التي آل اليها أمر استفتاء تقرير المصير في الصحراء الغربية, بين المغرب والبوليساريو- رغم اختلاف الظروف والأوضاع بين الحالتين. ولعل هذا ما يفسر التصريحات والمواقف الجنوبية التي تتسم بالعصبية والتوتر عند الحديث عن موعد الاستفتاء أو إجراءاته, غير أنه من الواضح طبقا للتطورات الاخيرة فان الحركة الشعبية قد تقبل التأجيل لزمن محدد في حالة مجيء هذا المقترح من قبل الولاياتالمتحدة وبضمانة منها. وفي المقابل فان حزب المؤتمر الوطني يعلن طوال الوقت التزامه باجراء الاستفتاء في موعده, خشية من إتهامة بمحاولة التنصل من الوفاء بنصوص اتفاقية نيفاشا, غير أنه يترك الباب مواربا للتنصل من هذا الالتزام من خلال التأكيد المستمرعلي نقطتين أساسيتين, الأولي أن الحكومة السودانية سوف تعترف بنتائج الاستفتاء إذا كان حرا ونزيها, بمعني ان الاستفتاء قد يجري ولكن عملية الاعتراف بالنتائج شأن آخريتعلق بالنزاهة, والنقطة الثانية تتصل بالقول بان عملية التاجيل تخضع لرأي وتقويم المفوضية, من حيث اكتمال اجراءات الاستفتاء من عدمها, وبالتالي فانها قد تستند في أي لحظة تريدها إلي عدم اكتمال الاجراءات وبالتالي ضرورة التأجيل. هذا الموقف من الخرطوم يجب ألا يفهم بانها قد تعمل من أجل عرقلة أو التسويف في عملية الاستفتاء ومن ثم الانفصال, بل ينصرف ذلك إلي استخدام ورقة الاستفتاء والاعتراف بنتائجه من أجل تحسين موقف الخرطوم التفاوضي في المفاوضات الخاصة بالقضايا العالقة, وفي ترتيبات ما بعد الانفصال, لاسيما أن دولة الشمال ستجد نفسها مضطرة إلي إعادة صياغة كثيرمن معطياتها الدستورية والسياسية والاقتصادية بعد الإنفصال, الأمر الذي سوف يجعل النظام في خضم مواقف وتوازنات جديدة يريد أن يتحسب لها لاسيما مع استمرار أزمة دارفور وضغوط الجنائية الدولية, بالإضافة إلي التحديات التي سوف تنجم عن إدارة العلاقة مع الدولة الجنوبيةالجديدة بكل سماتها التي تفتقد الي مقومات الدولة وانكشافها الكبير أمام أدوار إقليمية ودولية لها أجنداتها الخاصة التي يحتل استهداف إستقرار وتماسك دولة الشمال مساحة واضحة لدي البعض منها. نخلص مما سبق أن الشد والجذب حول موعد الاستفتاء واجراءاته ما هو الا تعبير عن التضاغط القائم بين الطرفين, وهو تضاغط حرج ودقيق وحساس, الأمر الذي يجعل الموقف خطرا, ويفسر في الوقت نفسه القلق الاقليمي والدولي الذي يخشي من تدهور الأوضاع لأسباب غير محسوبة أو خارجة عن السيطرة. ويفسر أيضا الاهتمام الامريكي المتزايد من واشنطن خشية علي فقدان ما استثمرته من جهد ووقت ونفقات طوال عشر السنوات العشر في هندسة وإعادة صياغة الأوضاع السودانية حتي تصل بها إلي الوضع الحالي الذي أصبح جني الثمار فيه قريبا من متناول اليد, حيث تتمثل الخطوة الاولي في تقسيم السودان بين شمال وجنوب, ثم تلي ذلك الخطوات التالية, لاعادة التقسيم ما لم يكن هناك اجراءات واضحة وضرورية لوقف هذا المسار واتباع استراتيجيات جديدة تعمل كترياق للتداعيات المتوقعة. أهم القضايا الخلافية هناك عشر قضايا منصوص عليها في قانون الاستفتاء تعرف باسم قضايا ما بعد الاستفتاء, وكلها قضايا بالغة الأهمية, إلا أن أكثرها حرجا وحساسية أربع قضايا, هي أبيي التي ينذر الخلاف حولها بتحولها إلي ما يشبه قضية كشمير بين الهند وباكستان, ثم قضايا ترسيم الحدود وأوضاع النفط وأوضاع الجنوبيين في الشمال بعد الانفصال, وهناك بقية القضايا التي تقف علي رأسها قضايا المياه والديون والأصول المشتركة. كل هذه القضايا ظلت حتي الآن تراوح في مكانها,دون تحقيق اي تقدم. إذن الموقف الحالي يقتضي التريث وعدم الإقدام علي إجراء استفتاء ناقص الإجراءات وغير مكتمل الشرعية في ظل خلافات بهذا الحجم, الأمر الذي سوف يمثل وصفة جاهزة للحرب وليس للتعاون والاستقرار, حيث الهدف من كل الجهود لمبذولة حاليا وبخاصة الجهودا المصرية هو العمل علي إنهاء الخلافات الحالية وحلها من أجل توفير الحد الادني اللازم لخلق قاعدة علاقات تعاونية بين الدولتين في المستقبل.