عندما نعالج تردي الوضع الثقافي العام, أو تراجع المشروع الثقافي, ونكتفي بالاشارة إلي الجزء دون الكل. أو نلقي باللاءمة علي شخص, تفريغا لغضب, أو تنفيثا عن ضغينة ذاتية, متصورين أن هذا الوزير أو ذاك مسئول عن التراجع الثقافي العام, وأنه وحده السبب فهذه هي السذاجة الفكرية المقرونة بعدم الموضوعية وتصفية حسابات لا محل لها من الاعراب. وهذا للأسف ما أحسست به عندما قرأت مقال فاروق جويدة عن مؤتمر المثقفين في جريدة الشروق في عدد الأحد السابع عشر من هذا الشهر. ويدور المقال حول تراجع الثقافة المصرية وعجز المشروع الثقافي المصري عن أداء دوره القديم, وهو موضوع سلسلة المقالات التي أكتبها حاليا في هذه الجريدة, ولكن بدل أن يحلل صديقي فاروق جويدة ظاهرة التراجع الثقافي, ويردها إلي أسبابها الموضوعية, من منظور شامل, أخذ يلقي بالاتهامات جزافا علي وزير الثقافة, متوهما أن وزير الثقافة هو سبب تراجع المشروع الثقافي المصري, وذلك بسبب وجود بعض العناصر المدانة في وزارته, وهو أمر غير مسئول عنه, وقد نال المخطئون جزاءهم ولا يزالون, فلا حماية لأي مفسد أيا كان, وذلك لا يقلل من حجم الانجازات الهائلة لوزارة فاروق حسني. أما إذا اتهمنا الوزير بأنه مسئول وحده عن انحدار الثقافة, وتراجع دور المشروع الثقافي المصري, فإن هذا ما أراه نظرة جزئية ساذجة للمشكلة. فنحن لو اقصينا فاروق حسني من الوزارة, مثلا, ووضعنا محله طه حسين نفسه, أو ثروت عكاشة, أو حتي من هو أكبر منهما, ما انحلت المشكلة, لأن جذر الحل لا يكمن في الأفراد مهما كانوا عباقرة, وإنما في سياسات الدولة التي يمكن أن تفشل عمل أي ووزير مهما كانت عبقريته أو نواياه الطيبة. والسبب في ذلك هو أن المشروع الثقافي لأي أمة هو نتاج عملية التثقيف المجتمعي العام للأمة. وهو مشروع يطير بجناحين: أولهما وزارات الدولة, وثانيهما مؤسسات المجتمع المدني. أما وزارات الدولة فتبدأ بالتعليم الذي هو حجر الأساس في الوعي الثقافي للمواطن حتي سن الخامسة عشرة علي الأقل, ممتدا إلي مرحلة التعليم العالي. ويلي التعليم الإعلام الذي أصبح لأجهزته, وعلي رأسها التليفزيون, التأثير الأخطر في عصر الجماهير الغفيرة, متعددة الأمية وثالثها وزارة الثقافة بمضاعفة تأثيرها في مواجهة التحديات المخيفة, ورابعها وزارة الأوقاف بعشرات الآلاف من الوعاظ التابعين لها وغير التابعين الذين يشيعون ثقافة الجهل والتخلف والتعصب في الجماهير, وخامسها وزارة الاقتصاد التي تتيح الأساس المادي القوي لأجهزة التثقيف الجمعي وأدواتها, وأخيرا وزارة الاستثمار التي لابد أن تدخل طرفا قويا في دعم ما أصبح يسمي اقتصاديات الثقافة, ويمكن أن نضيف إلي ذلك أجهزة التثقيف العمالي في وزارة العمل, وأجهزة التثقيف الشبابي في المجلس الأعلي للشباب, وأخيرا دور المجلس القومي للمرأة في إشاعة ثقافة الارتقاء بالمرأة. ولا يمكن أن تنجح أي وزارة من هذه الوزارات في عملها إلا بالتعاون مع بقية وسائل الاعلام, فلا قيمة لما تفعله وزارة الثقافة, وهو كثير, ما لم تكن مستندة ومدعومة بالاعلام والتعليم الذي يسبق دوره دورها ويوازيه. ولا يقل عن التعاون والتفاعل أهمية ضرورة وجود استراتيجية عامة للدولة, تسندها إرادة سياسية حازمة, تفرض التجانس, وتجدد القوي الدافعة للجميع. هذا هو الجناح الأول الخاص بالدولة, أما الجناح الثاني فهو المجتمع المدني. أعني وجود أحزاب قوية متكافئة, للثقافة دور أساسي في برامجها, وليس ما لدينا سوي أحزاب هزيلة لا تعي دور الثقافة في تقدم المجتمع. وكم أحزنني, وأنا أراجع برامج الأحزاب, أنه لا يوجد حزب واحد جعل للثقافة مكانة مهمة في برامجه سوي الإخوان المسلمين, إدراكا منهم لأهمية إشاعة خطاب ديني تسلطي علي عقول الناس, وذلك بما يتيح لهم القفز علي السلطة. أما بقية الجمعيات والنقابات, فدورها الثقافي هزيل بالقياس إلي التحديات التي تواجهها الأمة المصرية في هذا الزمان الضنين الصعب. وإذا أردنا أن يعود المشروع الثقافي المصري خفاقا, محلقا في السماوات القومية والدولية, مؤثرا كل التأثير في وعي الناس ووجدانهم, فعلينا تقوية الجناحين معا, وضبط بوصلة الحركة بواسطة إرادة سياسية حاسمة, تتولي تجسيد أحلام الأمة وطموحاتها في التقدم في كل مجالات الدولة المدنية وآفاقها ولوازمها القائمة علي التسامح والحوار المجتمعي والتنوع الثقافي الخلاق. وهذا تحد لا يمكن أن تنهض به وزارة وحدها, فماذا تفعل الثقافة إذا كان التعليم والاعلام يفسدان مهمتها, وقل الأمر نفسه علي وعاظ المساجد, وعلي الأزهر الذي تفوق سلطاته سلطة رقابة وزارة الثقافة في السماح بالأشرطة الدينية التي تملأ التاكسيات والمحال العديدة في الحواري والأحياء الشعبية. لقد تعقدت أدوات التثقيف المجتمعي في هذا العصر, وغزتها التكنولوجيا, وأصبحت مواقع النت والبلوجرز والفيس بوك أكثر من الهم علي القلب, وتنافس في التأثير وسائل الاتصال والاعلام الحكومي. وهذا وضع جديد, يلزم التفكير فيه وطرح أسئلة جديدة للإجابة عنا. ويقود هذا كله إلي مبرر التفكير في مؤتمر شامل للثقافة المصرية, وهو مبرر بالغ الوضوح, يرجع إلي أن التحديات الخطيرة التي تواجهها الثقافة, في هذه المرحلة الحرجة,تفرض صياغة استراتيجية جديدة, تحقق انتصار الدولة المدنية علي أعدائها من ناحية, وتستعيد فاعلية الدور المصري وتدفع به إلي الأمام مرة أخري. ولنتذكر خطر التطرف والتعصب الديني, وخطر ثقافة التراتب لا المساواة, والتديين لا تمكين الوعي المدني, وتحولت مفاهيم الوطنية وأطرها المرجعية, والاحتقان الطائفي, وغياب المشروعات القومية الكبري, وهذه أمثلة من تحديات الداخل, مضافا إليها تناقص مساحات الحريات وحق التعبير الإبداعي والفكري, فضلا عن التحديات التي فرضتها العولمة وأفكار صراع الحضارات. وإذا لم يفرض ذلك حتمية صياغة استراتيجية ثقافية جديدة, فما غيره؟ لقد كتب طه حسين مستقبل الثقافة في مصر سنة1938 عندما حصلت مصر علي استقلالها, فكان لابد أن يؤسس مفكر كبير لاستراتيجية ثقافية جديدة, تتجه بوصلتها إلي المستقبل الواعد, وعندما تولي فاروق حسني الوزارة استعان بأساتذتنا أمثال زكي نجيب محمود وحسين مؤنس وغيرهما لصياغة استراتيجية ثقافية. ولكن تجاوزتها الأحداث, وآن الأوان لوضع استراتيجية ينهض بها جيلنا والجيل اللاحق لتحديد خطي المستقبل, وأنا أدعو فاروق جويدة, بحكم صداقتي له, أن يشترك معنا في صياغة هذه الاستراتيجية بفكره الثاقب, فهذه الاستراتيجية لن تكون من صنع وزير الثقافة وحده, بل من صنعنا نحن مثقفي هذه الأمة الساعين وراء مستقبلها الثقافي الأفضل, وهذه مسئولية الجميع دون استثناء في هذه المرحلة المطلوب فيها العمل المخلص القائم علي الإيثار لا الأثرة. أما التركيز علي هذا الخطأ أو ذاك, أو هذا الموظف الذي نال عقابه القانوني والآخر الذي يجب أن يعاقب, فهذه تفاصيل جزئية, تدخل فيها القضاء ولايزال. والمحنة التي تواجهها الثقافة المصرية تفرض علينا الأسئلة المؤرقة: إلي أين تذهب هذه الثقافة؟ نحو سكة الندامة أو سكة السلامة؟ وماذا نفعل بالتطرف الديني الذي شاع كالوباء, وبانغلاق الشباب المصري الذي تراجع مستواه الفكري والثقافي؟ وكيف نواجه إهمال ثقافية الريف والنوبة وسيناء؟ وما دور وزارة الاستثمار في دعم السينما والترجمة؟ وكيف نعالج جروح وضعف جناحي المشروع الثقافي المصري كي يقويا علي الطيران, حاملين معهما أحلامنا الممكنة؟ وما السبيل إلي ذلك وغيره؟ وكيف نواجه ما يمكن أن تقع فيه وزارة الثقافة وغيرها من أخطاء؟ بلغة الاتهام المخايلة؟ أو المماحكات اللفظية الفارغة المحتوي؟ أو حوار الأفكار الخلاقة في مدي الاختلاف البناء؟!.