علي مدي الأسبوعين الماضيين قام فريق العمل بدنيا الثقافة باستطلاع رأي عدد من المثقفين حول أهم التحديات التي تواجهها الحياة الثقافية في مصر, والتي حددوها في استرداد مصر لمكانتها الثقافية وضرورة اتخاذ الخطوات اللازمة لتشجيع الابداع والمبدعين في مختلف المجالات. وقد أشار البعض الي حقيقة أن الثقافة باعتبارها منظومة مجتمع وأسلوب تفكير, مهمشة وتفتقد التجديد, وأن عددا كبيرا من المؤتمرات الثقافية والندوات لا تستحق ما تم إنفاقه عليها حيث إنها تقوم علي منافع شخصية ولا تصل للجمهور. كما انتقد البعض غياب الثقافة العلمية وتراجع دور النقد عن مواكبة الابداع وغياب مشروع ثقافي قومي وانحسار الدور الثقافي للإعلام, واتساع الهوة بين ثقافة النخبة والخدمات الثقافية التي تقدمها الأجهزةوالرسمية وبين معطيات الشارع المصري. وضعف مستوي المجالات الثقافية وتدهور مستوي التعليم وغياب الرؤية الاستراتيجية التي تقوم علي جهود المفكرين القادرين علي التعبير عن جوهر شخصية الوطن وتطلعاته لتأسس مشروعه القومي. كما أشاروا الي انحسار الدور الثقافي لإعلامنا وتدهور مستوي اللغة وغياب دور الجامعة, وتراجع دورها وحالة الانفصال التي أدت الي تقوقع المثقف و سلبيته في كثير من المواقف وعزلته عن الشارع وما يموج به المجتمع من تيارات. كذلك فقد أشار البعض الي إشكالية الترشيح للجوائز وشككوا في آليات تحديد الفائزين. وفي ظني أن الرؤي التي طرحها عدد من مصادرنا في هذا الاستطلاع, وإن كانت تكشف عن حالة عدم الرضا التي تسود الوسط الثقافي, وعن معوقات تفعيل العمل الثقافي ليصبح جزءا من واقعنا اليومي, إلا أن أهميتها الحقيقية تكمن في أنها تشي بالكثير من التحولات التي لحقت بالمجتمع المصري وانعكست علي نسق القيم والاخلاقيات التي باتت تحكم المجتمع والمتغيرات التي لحقت به, من قبيل السلبية وتغليب المنفعة الفردية علي المصلحة العامة وتراجع قيم الإتقان والعمل والتعاون والعدالة والقدوة والعلم والتفكير العلمي والأسرة والإحساس بالأمن والطمأنينة. ومن المعروف أن عددا كبيرا من الكتاب قد حاولوا في السنوات الأخيرة رصد هذه المتغيرات وتحليل ما حدث للمصريين والتساؤل عما اذا كانت هذه التحولات تمثل انحرافا في السمات المعروفة للشخصية المصرية. كذلك فقد صدرت في نفس السياق مجموعة من الدراسات التي تناولت منظومة القيم في مصر وتستحق التأمل في ضوء ما جاء في استطلاع دنيا الثقافة, وكان من بينها مسح علمي أجراه مركز إيماك( اتحاد القيم العالمي) بالاشتراك مع قسم الاجتماع بجامعة عين شمس عام2000 أظهر أن نسبة من يؤمنون بقيمة العمل الجاد في عينة البحث المكونة من300 شخص لم تتعد38.4% بينما لم تتجاوز9% بالنسبة لقيمة الإصرار والمثابرة. كذلك فقد أظهرت دراسة أجراها د. عبد الرحمن العيسوي علي عينة من الشباب في مصر في عام2002 أن53.5% من العينة رأوا أن القيم الأخلاقية قد أصبحت أسوأ وأن45.5% من العينة اعتبروا أن موظفي المحليات أو الأحياء يحتلون موقع الصدارة بين طوائف الموظفين الذين أصابهم الفساد, بينما ألقي64.5% من العينة مسئولية التدهور الأخلاقي علي الوضع الاقتصادي واعتبر78% من العينة أن التليفزيون يؤدي الي الفساد والتدهور الأخلاقي, وكان ذلك في مقابل15.7 من العينة ممن رأوا أن للتليفزيون تأثيرا في تحسين المستوي الأخلاقي. وفي نفس السياق صدرت عن مركز المعلومات ودعم اتخاذ القرار بمجلس الوزراء دراسة بعنوان أجنحة الرؤية نحو نسق ايجابي للقيم الاجتماعية يحلق بالمصريين الي أفق الرؤية المستقبلية لمصر2030 شارك فيها عدد من رموز العمل الثقافي في مصر, من بينهم د. أحمد عكاشة و د. أحمد عمر هاشم و د. أحمد حجازي ود. وليد عبد الناصر والأساتذة يوسف القعيد ونبيل زكي ووجدي رياض وليلي حافظ وعاطف الغمري وغيرهم. ورغم أن الكتاب الذي ضم الدراسة قد أغفل توضيح منهج جمع البيانات وتحديد أدوات تحليلها, إلا أنه يقدم صورة جديرة بالاهتمام, إذ تبدأ الدراسة بتحديد ماهية القيم ومصادرها وأهميتها وتستعرض جذورها والمؤثرات التاريخية التي شكلت منظومة القيم المصرية وأسباب تغيرها خلال نصف القرن الأخير. ولعل من أهم ما جاء في هذا الصدد أن السمات التي تشكل الشخصية القومية لأي شعب قابلة للتطور والتغيير بفعل ما يطرأ علي منظومة القيم السائدة في المجتمع في مراحل تطوره, سواء عبر التفاعلات الذاتية أو العوامل الموضوعية, محلية كانت أم اقليمية أو عالمية وما تفرضه من قوانينها. ولعل في هذا ما قد يفسر التحولات التي طرأت علي المجتمع المصري مؤخرا وباتت تهدد وسطيته, تلك القيمة المغروسة في جذوره, وميل المصري اليوم الي الاغتراب والحذر, حتي ليبدو الإنسان المصري المعاصر وكأنه ممزق بين منظومة الاستمرارية والاستقرار والتسامح والنزعة السليمة وقيم التكافل والتراحم الأسري وبين محاولات التأقلم مع ما يفرضه الواقع من قيم تتناقض مع كل ما استقر في وجدانه عبر العصور. وأزعم أن هذا الطرح قد يوضح لنا أسباب حالة الالتباس والضبابية التي يواجهها الضمير المصري في مواجهة العديد من الأزمات التي عايشناها مؤخرا والتي تطلبت تحديد مفاهيم الانتماء والسيادة والكرامة الوطنية والمواطنة, بدءا من التعامل مع أزمة سببتها مباراة كرة قدم وانتهاء بأزمة التحصينات علي الحدود المصرية وأزمة نجع حمادي. وتشير الدراسة الي المحطات التي مثلت تحولا في منظومة قيم المجتمع المصري في التاريخ المعاصر منذ الحرب العالمية الثانية الي وقتنا الحالي وما أفرزته من تداعيات أدت لحالة من الفوضي والخواء القيمي ومحاولة اسباغ الصبغة الدينية الظاهرية علي العديد من القيم والسلوكيات والأنشطة, مما أدي لظهور صراع بين منظومتين, إحداهما تتبني قيم الحداثة والعقلانية والمفهوم العصري للدين والعادات, والأخري ترفع لواء التفسير التقليدي للعادات والرؤية النصية للدين واصباغها علي جوانب الحياة في المجتمع والحياة ككل, وتتجلي مظاهر الصراع بين المنظومتين في الصور الشكلية المتمثلة في الزي أو المظهر, وتمتد لتطول كيانات مهمة في المجتمع مثل القطاع المصرفي والنقابات ووسائل الإعلام والثقافة ومنظمات العمل المدني وساحة العمل السياسي. وتخلص الدراسة الي أن يمكن تجاوز هذه التباينات وزيادة حجم المشترك من القيم التي تمثل المنظومة القيمية للمجتمع المصري وإعلاء قيم الوطنية والتسامح والتعددية الفكرية والعلم والعمل والاتقان والأمانة, من خلال التعليم والاعلام والثقافة والتوعية الدينية عبر خطاب ديني يتفق مع جوهر الدين وروح العصر. وفي النهاية وبعد استعراض الآراء التي جاءت في استطلاع دنيا الثقافة و ما عرضته الصفحة من كتب تناولت نفس الموضوع وما قدمناه اليوم من نموذج للابحاث المعنية بهذا الشأن لا يمكننا قط أن ندعي أن مفكرينا وباحثينا قد قصروا في تشخيص الداء أو تحديد الدواء. فقد قال مثقفو الوطن كلمتهم ولكن لا يزال السؤال متي يبدأ التعاون لنطلق شرارة العمل الوطني في كل المجالات التي سبق الإشارة اليها, كي نعيد للثقافة المصرية وللإنسان المصري مكانتهما ونواجه تحدياتنا الآنية وهمومنا المزمنة؟.. [email protected]