أحيانا تتداخل الأشياء وتتشابه الأمور وتختلط فتتكون العواقب الضبابية أو العشوائية وكلها شر فيما يتصل بالمنهجية السليمة والموضوعية الصحيحة للمرجعية العلمية التي يجب إقامتها كشفا للأحكام الشرعية لا إنشاء لها, وهداية وإرشادا, وتذكيرا وتنبيها. في صدر الإسلام عرفت المرجعية الافتاء نظهر اعلام يملكون أدوات العلم السليمة وفي مقدمتها الاجتهاد بشروطه المرعية ومرجعية التعليم لمن جمعوا وتضلعوا وفقهوا وأجيزوا, وكان في كل مصر أهل الافتاء وأهل التدريس ومن يجيزونهم من النابغين النابهين. ولذا نبه أكابر العلماء الي ان ولي الأمر يجب عليه فيما يتصل بالسياسة الشرعية اقامة هذه المرجعيات بشروطها وأن ينظر في أحوال أهلها, ويمنع من يتصدر لذلك وليس بأهل, أو اذا كان ممن يسئ, قال الحنفية: يحجر علي المفتي الماجن أي من يعلم الحيل الباطلة ومن يفتي عن جهل ابن عابدين علي الدر المختار93/5) وقال الشافعية: ينبغي للامام والمؤسسات ذات العلاقة في عصرنا تصفح احوال المفتين, فمن صلح للفتيا أقره, ومن لا يصلح منعه ونهاه وتوعده بالعقوبة إن عاد, وطريقه معرفة من يصلح للفتيا ان يسأل عنه علماء وقته ويعتمد اخبار الموثوق بهم( المجموع للنويي41/1) وقال الحنابلة: من أفتي وليس بأهل فهو آثم عاص, ومن اقرهم فهو آثم أيضا, ويلزم ولي الأمر منعهم, فهو بمنزلة من يدل الركب ولا يعلم الطريق, وبمنزلة من يرشد الناس الي القبلة وهو أعمي, بل أسوأ حالا, واذا تعين علي ولي الأمر منع من لم يحسن الطب من مداوة المرضي, فكيف بمن لم يعرف الكتاب والسنة ولم يتفقه في الدين( إعلام الموقعين217/4) وقد كان من شمائل السلف الصالح الحقيقيين رضي الله عنهم تهيب الافتاء والجرأة عليه عملا بتحذير سيدنا رسول الله صلي الله عليه وسلم اجرؤكم علي الفتيا أجرؤكم علي النار اخرجه الدرامي مرسلا,57/1 ما منهم من يحدث بحديث إلا ود ان اخاه كفاه اياه, ولا يستفتي عن شيء الا ود ان اخاه كفاه الفتيا.. وفيما نقل عن مالك رضي الله عنه انه ربما كان يسأل عن خمسين مسألة فلا يجيب في واحدة منها, وقال من اجاب فينبغي قبل الجواب ان يعرض نفسه علي الجنة والنار, وكيف خلاصه, ثم يجيب وكان أحمد رضي الله عنه يكثر من قول: لا أردي( المجموع140/1 وما بعدها) ومن المأثور في عمل السادة الفاقهين لحرمات الشرع ما رواه ابن أبي ليلي: أردكت عشرين ومائة من الانصار من أصحاب رسول الله صلي الله عليه وسلم يسأل أحدهم عن المسألة فيردها هذا الي هذا, وهذا إلي هذا, حتي ترجع إلي الأول( المرجع السابق), وكانوا يستشعرون منزلة الفتوي لأن الله عز وجل قام بها! يستفتونك قل الله يفتكم الآية176 من سورة النساء وتولاها رسوله صلي الله عليه وسلم وأنزلنا اليك الذكر لتبين للناس ما نزل إليهم الآية44 من سورة النحل والمفتي خليفة النبي صلي الله عليه وسلم في أداء وظيفة البيان, بل شبه القرافي المفتي بالترجمان عن مراد الله تعالي وجعله ابن القيم بمنزلة الوزير الموقع عن الملك( إعلام الموقعين عن رب العالمين لابن القيم10/1) إذا علم هذا: فلم الخلط بين مهمات وظائف, والجرأة التي تعج بها الساحة, ولمصلحة من نشوء مرجعيات لطوائف ما كان لها أن تقوم, وأمسي الناس يتخذون فلانا مرجعية موازية أو بديلة عن المرجعية المتعمدة واقعا وعرفا, وصارت المرجعيات المتعددة تروج لاتجاهات مذهبية وتوجهات لا تمت لصحيح الدين أو العلم بصلة مع فقدان هذه المرجعيات لادني اهلية الافتاد وشروط الاجتهاد وفقدت الأمة المسلمة في عالم متغير علي المستوي الدولي مرجعية كبري في غمار التنازع لمن؟ وأين؟ ألم يأن لمن يهمه أمر الدين الحق توحيد المرجعية الخادمة للدين ولعموم الامة وليس لطائفة؟ ألم يأن الاغرار وأنصاف ومتعلمين متعالمين الانقياد لتحذير الوحي المعصوم( ولا تقولوا لما تصف ألسنتكم الكذب هذا حلال وهذا حرام لتفتروا علي الله الكذب إن الذين يفترون علي الله الكذب لا يفلحون متاع قليل ولهم عذاب أليم) الآيات116 وما بعدها من سورة النحل( إن الذين فرقوا دينهم وكانوا شيعا لست منهم في شيء) الآية159 من سورة الانعام هذا بلاغ فهل من مذكر؟! د. أحمد محمود كريمة أستاذ الشريعة الاسلامية بجامعة الأزهر