جاء قرار مجلس القضاء الأعلي الذي صدر منذ ايام والخاص بعدم السماح بنقل أو بث أو تسجيل أو اذاعة وقائع المحاكمات بواسطة اي وسيلة من وسائل الإعلام من خلال تصوير الوقائع او هيئات المحاكم او الدفاع او الشهود او المتهمين اثناء اجراءات تلك المحاكمات مثيرا لكثير من الجدل بين المرحبين بالقرار باعتباره يجنب المجتمع الكثير من المهاترات, وأنه في مصلحة المواطن, وبين الرافضين له لأنه في رأيهم يتعارض مع مبدأ علانية جلسات المحاكم التي أقرها القانون, وانه يعد انتهاكا لضمانات المحاكمة العادلة والمنصفة. وفي رأيي ان هذا القرار جاء في أعقاب العديد من الممارسات غير المسئولة من جانب بعض وسائل الاعلام. ورغم أن نشر اخبار الجرائم والتحقيقات والمحاكمات حق مشروع للصحف وغيرها من وسائل الاعلام, انطلاقا من ان ذلك حق للناس حتي يطمئنوا الي حسن سير العدالة, إلا ان تطرف وسائل الاعلام صحفا وتليفزيونا في بعض الاحوال في ممارسة حقها بل وواجبها في توفير المعلومات عن الجرائم قد يؤدي الي حرمان المتهم الذي هو بريء دائما حتي تثبت إدانته من محاكمة عادلة أو قد ينطوي علي إساءة للمتهم او تعبئة الرأي العام ضده أو العكس تعاطفه معه قبل صدور حكم القضاء. وتشير التجارب والخبرات المتراكمة في هذا الصدد إلي وجود حالات يكون فيها من مصلحة المجتمع والعدالة والمتقاضين عدم النشر أو الاذاعة وهي: 1 نشر أخبار التحقيقات التي حظرت سلطة التحقيق اذاعة شيء منها مراعاة للنظام العام أو حماية للآداب العامة, أو من أجل تهيئة المناخ المناسب لظهور الحقيقة. 2 نشر وقائع الجلسات السرية للمحاكم. 3 النشر المؤثر علي سير المحكمة من خلال التعليقات التي يمكن أن تؤثر علي احكام القضاة او المكلفين بتحقيق ما والشهود والرأي العام, حيث يمثل ذلك نوعا من الضغط المعنوي. 4 نشر الاخبار حتي ولو كانت صحيحة التي يمكن أن تؤثر علي الادعاء العام أو المحامين والتحقيق أو الشهود أو الرأي العام في قضايا منظورة امام القضاء, ايمانا بان هناك ضميرا مهنيا واحساسا عاليا بالمسئولية الاجتماعية, وان حرية الإعلام لابد أن توازن بين ممارسة الحرية والحفاظ علي حقوق المجتمع وحقوق الأفراد. 5 نشر صور واسماء الاحداث المتهمين في قضايا معينة بمايؤثر علي مستقبلهم ويسيء الي عائلاتهم. 6 نشر أخبار التحقيق المتعلقة بدعوي من دعاوي الطلاق أو التفريق أو الزنا ومايجري في بعض الدعاوي مراعاة للنظام العام أو المحافظة علي الآداب العامة او لحسن سير العدالة وهذه الامور نظمتها القوانين المنظمة للمهنة سواء قانون تنظيم الصحافة رقم96 لسنة1996 أو قانون العقوبات المصري. وإذا كان الأصل هو إباحة نشر أو إذاعة اخبار المحاكمات العلنية إلا أن هناك حالات حظر لنشر المحاكمات وتتضمن: 1 حظر نشر الدعاوي المدنية والجنائية التي حظرت المحاكم نشر المرافعات أو اقوال المتهمين وشهادة الشهود, وفي هذه الحالة يكون مسموحا بنشر موضوع الشكوي ونشر منطوق الحكم بشأنها. 2 حظر نشر ماجري في المداولات السرية( أي تبادل الرأي بين قضاة المحكمة المعروض عليها دعوي معينة) وسرية المداولات من الأصول الجوهرية للمحاكمة بهدف حماية العدالة.. كما يجرم القانون النشر بغير أمانة وبسوء قصد لما جري في الجلسات العلنية للمحاكم. وعندما طالعت الخبر الخاص بقرار مجلس القضاء الأعلي بالصحف فهمت منه أنه يعني فقط عدم التصوير, وليس عدم التغطية الصحفية والاعلامية الكاملة والصحيحة والعادلة لجلسات المحاكم العلنية, ولا أدري لماذا قامت الدنيا ولم تقعد لدي البعض. إنني أري ان ماتم هو مجرد اجراء يحمي المتقاضين ويحقق حسن سير العدالة, ولكن المسألة اعمق من ذلك وتستحق بعض الجهد المشترك من جانب الإعلاميين الذين أثق أن الغالبية العظمي منهم شرفاء حريصون علي المصلحة العامة ويلهثون وراء الحقيقة, ويتمتعون بالنزاهة المهنية, ورجال القضاء من اجل تنظيم الممارسة الفعلية لحق الجمهور في ان يعرف ويتابع بأمانة وانصاف مايجري من محاكمات, ولي في هذا المجال بعض التصورات: أولا: أدعو مجلس القضاء الأعلي أن يتعاون مع كل من نقابة الصحفيين والمجلس الاعلي للصحافة واتحاد الاذاعة والتليفزيون وممثلين للقنوات الخاصة وبعض الخبراء لصياغة دليل عملي واضح لكيفية التعامل مع النشر الحر, والمسئول لاخبار المحاكمات يكون هاديا لكل إعلامي يسعي لأداء عمله المهني. ثانيا: أدعو المجلس ايضا أن يتعاون مع النقابة والمجلس الاعلي للصحافة ووسائل الاعلام من صحف وقنوات تليفزيونية ارضية وفضائية لإقامة برامج تدريبية جادة للإعلاميين خاصة الشباب منهم لتزويدهم بالمعرفة القانونية ومن ذلك القوانين التي تنظم مهنتهم نفسها, وإكسابهم الثقافة القانونية التي تمكنهم من اداء عملهم في هذا المجال. ثالثا: أناشد نقابة الصحفيين ان تدير حوارا مجتمعيا مسئولا بعيدا عن الفوضي والمزايدات حول القوانين التي تنظم النشر بشكل عام لايجاد رأي عام مساند لتخليص قانون العقوبات المصري الكتاب الخاص بجرائم العلانية أو النشر من بعض النصوص التي عفا عليها الزمن وتحتاج لرؤية جديدة في ظل المتغيرات السريعة والمتلاحقة التي يشهدها الإعلام ولاسيما تأثيرات تكنولوجيا الاتصال والمعلومات. رابعا: ضرورة إعطاء أولوية ضمن التشريعات المزمع تقديمها لمجلس الشعب في دورته الجديدة التي تبدأ بعد انتهاء الانتخابات لمشروع قانون تنظيم البث المرئي والمسموع فالحاجة ملحة لاصدار قانون يستلهم روح الحرية. ويراعي في ذات الوقت المسئولية الاجتماعية.. ينظم ولا يقيد. خامسا: مازلت أكرر مطالبتي بضرورة إنشاء بعض الجمعيات الأهلية في إطار المنظمات الحقوقية يكون هدفها حماية جمهور وسائل الإعلام من الاستغلال غير المسئول لوسائل الإعلام ضد مصالح المجتمع وحقوق الافراد تمثل قوة ضغط معنوي وتكون بمثابة ممثلة للمجتمع في هذا المجال.