من الطبيعي أن يكون سؤال الهوية هو السؤال الجوهري أو المحوري الذي فرض نفسه علي محمد أركون في تلك المرحلة التي كان عليه فيها أن يعرف نفسه ويختار طريقه ويرسم مستقبله, وهو في هذا ليس استثناء, فقد كان سؤال الهوية في تلك المرحلة مطروحا بشدة علي الجزائريين جميعا, وعلي غيرهم من العرب والمسلمين الذين تعددت أمامهم الطرق وتضاربت الاختيارات. كان أركون جزائريا بالميلاد, وفرنسيا بالجنسية والثقافة, وعربيا مسلما بالعقيدة, وقبائليا بالدم, وإذا كانت الانتماءات تتعدد وتتعايش وتتكامل في كثير من الأحيان, فهي تتضارب وتتصارع في أحيان أخري كما حدث في الجزائر التي استولي عليها الفرنسيون وجعلوها جزءا من فرنسا, وفرضوا عليها لغتهم وثقافتهم إلي أن اشتعلت الثورة, ونجحت في وتحرير الجزائر التي أصبحت في أوائل الستينيات من القرن الماضي جمهورية مستقلة. في ذلك الوقت كان أركون قد تجاوز الثلاثين من عمره, وكان يحمل الجنسية الفرنسية التي ولد بها, ويواصل نشاطه العلمي باللغة الفرنسية التي تلقي بها دراسته فماذا يفعل؟ وأي طريق يختار؟ هل يتخلي عن الجنسية الفرنسية ويعود إلي الجزائر؟ لكن لماذا وقد اعترفت فرنسا باستقلال الجزائر, وانتهي القتال, وواصل مئات الألوف من الجزائريين المقيمين في فرنسا حياتهم فيها؟ ولقد جرب مثقفون جزائريون آخرون طريق العودة فماذا وجدوا؟ جمال الدين بن الشيخ عاد إلي بلاده فمنع من تدريس شعر أبي نواس في الجامعة, وقرر أن يعود أدراجه إلي فرنسا ليعمل في السوربون ويقدم للأدب العربي باللغة الفرنسية ما لم يقدمه غيره. والديمقراطية التي كان الجزائريون يحلمون بها, ويعتقدون أنها ستتحقق بعد الاستقلال لم تتحقق, وانتهي الصراع علي السلطة بين بن بللا وهواري بومدين بانقلاب عسكري, والرخاء الذي كانوا ينتظرون مجيئه لم يجئ, والذي جاء هو الشيخ المصري محمد الغزالي الذي أقام في الجزائر سنوات أسس خلالها قاعدة للإسلام السياسي نتج عنها شر كثير. وربما استطاع أركون أن يقرأ هذا المستقبل الملبد بالغيوم, فقرر البقاء في فرنسا والاحتفاظ بجنسيتها علي أنه ظل مخلصا لأصوله, فقد انكب علي دراسة الفكر العربي الإسلامي بمنهج اختاره لنفسه وابتعد فيه عن المناهج الشائعة عند المستشرقين وعند المسلمين. المستشرقون يعزلون التراث عن شروط إنتاجه ويتعاملون معه باعتباره وثائق أو آثارا مكتوبة من حضارة آفلة, والعرب والمسلمون يقدسون هذا التراث ويعتبرونه صوابا كله, ولا يقبلون فيه شكا أو مراجعة, والنتيجة المترتبة علي المنهجين هي استبعاد التراث العربي الإسلامي والحكم بموته, لأنه في نظر المستشرقين أثر قديم لا ينتمي لهذا العصر, ولأنه في نظر العرب والمسلمين معصوم متعال لا يقبل تصحيحا أو إضافة. أما أركون فيتعامل مع التراث العربي الإسلامي بوصفه تراثا إنسانيا لا يمكن فهمه أو تقديره بعيدا عن المجتمعات التي أنتجته, والحاجات التي لباها, والأسئلة التي أجاب عنها, ولأنه تراث إنساني فهو خبرة تظل حية مادام في استطاعة أصحابها أن يطوروها ويتعاملوا معها بوصفها نشاطا بشريا يصيب ويخطئ, ويقبل النقد والمراجعة ليساير الزمن ويتطور ويتجدد ويلبي مطالب أصحابه التي تتطور وتتجدد. أركون مفكر عقلاني, لكنه لا يستبعد الدين كما يفعل كثير من المفكرين الغربيين, وهو يتعامل مع التراث الديني باحترام, لكنه يخضعه للامتحانات المنهجية التي لا نستطيع بدونها أن نصل إلي يقين علمي. إنه يميز في التراث الديني بين الأصول الحية الباقية, والتطبيقات والفتاوي التي تصلح لوقت أو ظرف ولا تصلح لوقت أو ظرف آخر, فالذين يصرون علي العمل بهذه الفتاوي مقلدون يبتعدون عن مقاصد الشريعة بقدر ما يوغلون في تقليد القدماء, ثم يأتي بعدهم من يقلدهم, وهكذا تمضي حياتنا, مقلدون يقلدون مقلدين, حتي نصل إلي زمن لا يكفينا فيه أن نفتح باب الاجتهاد الذي أغلق منذ قرون, وإنما تصبح حاجتنا ملحة لإعادة النظر فيما كان يسلم به الفقهاء السابقون ويبنون اجتهاداتهم علي أساسه, وهذا ما يشرحه محمد أركون في كلامه عن ضرورة الانتقال من الاجتهاد الذي نؤديه مضطرين تحت ضغط الحاجات العملية إلي نقد الأسس التي ينطلق منها العقل الإسلامي ليجتهد في الفهم والاجابة. خذ مثلا حديثه عن الإجماع الذي يعتبر أصلا من أصول الفقه والإجماع يكون حين يتفق الفقهاء علي رأي في مسألة من المسائل فيصبح إجماعهم مبدأ يأخذ به المسلمون. ومن المؤكد أن اتفاق الفقهاء في رأي دليل علي الصواب, لكن السؤال الذي طرحه أركون ولم يلتفت له معظمنا من قبل هو: إذا كان الفقهاء المسلمون قد أجمعوا علي رأي ما, فمن هم هؤلاء الفقهاء؟ وكم كان عددهم؟ والواقع أننا ننظر في الماضي والحاضر فنري الناس يختلفون ويندر أن يتفقوا, وإلا فكيف نشأت في الإسلام السنة, والشيعة, والخوارج, والدروز؟ وكيف تعددت مذاهب السنة, وفرق الشيعة, والخوارج؟ ونحن في مصر نعتبر الاختلاف رحمة, لأن الاختلاف حرية, ولأن الاتفاق الكامل تضييق وطغيان. والذي يقوله أركون في الإجماع يقوله في الناسخ والمنسوخ, وهو الآيات القرآنية التي نزلت متضمنة أحكاما في ظروف معينة, ثم نزلت بعدها آيات أخري بأحكام جديدة نسخت الأحكام الأولي, أي أبطلتها, فهذه ناسخة والأولي منسوخة, والمشكلة التي تواجهنا هنا أننا لا نكون دائما متأكدين من تواريخ النزول لنميز بين السابق واللاحق, أعني بين الناسخ والمنسوخ, وكذلك يفعل حين يتحدث عن الخلط بين كلام الله المنزل, وبين شرحه وتفسيره. وكان الإمام محمد عبده قد وقف عند هذه المسألة وندد ببعض الشيوخ الذين جعلوا كتبهم علي علاتها أساسا للدين, ولم يخجلوا من قولهم إنه يجب العمل بما فيها وإن عارض الكتاب والسنة! هذا الخلط يفضحه محمد أركون, كما فضحه من قبل محمد عبده, وكما فضحه من بعد نصر حامد أبوزيد, فكلام الله لا يتغير ولا يتبدل. أما التفسير فاجتهاد بشري نستطيع أن نراجعه ونختلف حوله ونعيد النظر فيه, وفيما بنيناه عليه, خاصة حين نجد أن اجتهادات القدماء لا تلبي احتياجاتنا الراهنة, ولا تتفق مع حقوق الإنسان وقيمه في العصور الحديثة.