إنه لاشك شئ مفرح أن يعطينا الله مانطلب, وأكثر من هذا أن يعطينا فوق مانطلب, ولكن أعمق الفرح هو أن يعطينا الله دون أن نطلب, وهذه عمق الرعاية الإلهية, التي يهتم فيها الله بخليقته, فيعطيها من فيض محبته, وليس لمجرد الاستجابة لصلواتهم, وهذا الأمر واضح منذ البدء. بديهي أن الله خلق البشر دون أن يطلبوا لأنهم لم يكونوا موجودين حتي يطلبوا الوجود, وبنفس جود الله وكرمه خلق جميع الكائنات الأخري العاقلة والجامدة, التي لها حياة والتي ليس لها طبعا دون أن تطلب, لقد خلقها كلها من العدم, والعدم ليس له كيان لكي يطلب ونحن كبشر حينما خلقنا الله, وهبنا العقل والضمير دون أن نطلب, وأعطانا السلطة علي كثير من الكائنات ومن الطبيعة دون أن نطلب, وأبونا آدم وهبه الله حواء دون أن يطلب كذلك لكي تكون معينة له في الأرض. * في كثير من الأمور لاينتظر الله من البشر أن يطلبوا, لكي يعطيهم, بل هو يعرف ما يحتاجون إليه فيعطيهم دون أن يطلبوا ولكي نوضح هذا الأمر في حياتنا العملية, نجد أن الطفل الصغير لايملك أن يعبر عن جميع احتياجاته ولكن أباه يعلم ويفهم ماذا يحتاج إليه ابنه, فيعطيه دون أن يطلب, وهكذا نحن مع خالقنا الكلي الحكمة والكلي الحنو والرحمة والشفقة, هو أدري بما نحتاج إليه, ويدبر كل احتياجاتنا دون أن نطلب, بل ويدبر احتياجات الأمم والشعوب والجماعات ولاينتظر من كل هؤلاء أن يطلبوا وربما لايطلبون ما يفيدهم ومايفيد غيرهم معهم!! * مثال آخر هو الراعي وكل راع يرعي غنمه حيث توجد احتياجاتها من العشب والماء, كذلك دون أن تطلب ونري الله أنه يرعي شعبه, وكما قال داود النبي في المزمور: الرب يرعاني فلا يعوزني شئ في مراع خضر يربضني, وإلي ماء الراحة يوردني, يهديني إلي سبل البر وهكذا الله راعي الكون: يعولهم, ويطلب الضال ويسترد المطرود ويجبر الكسير ويعصب الجريح ويهتم بكل واحد حسب احتياجه, وما أكثر الأمثلة في الكتاب وفي التاريخ عن رعاية الرب للبشر. إن الله يشبع كل حي من رضاه, دون أن يطلب, هو يرسل المطر والشمس, ويدبر أمور الناس من جهة الكون, ويعطي الطعام لكل ذي جسد. حتي للملحدين الذين لايؤمنون به وبالتالي لايطلبون منه شيئا. بل الله يعطي أيضا جمالا لزنابق الحقل, وصوتا جميلا لكثير من الطيور, طبعا بدون طلب, وليس بسبب استحقاق الخليقة. وإنما هو جود الله وكرمه. والله تبارك اسمه من فرط جوده أيضا وعد الناس بالنعيم الأبدي بما لم تره عين, ولم تسمع به أذن, ولم يخطر علي بال إنسان. وطبعا من المستحيل أن أحدا كان يطلب مالم يخطر علي باله. إننا قد نطلب نعيما. ولكن هذه الصورة بالذات, هي فوق مانطلب بكل تفاصيله. وأيضا النبوءات منحها الله للأنبياء دون أن يطلبوا, وما كانوا يفكرون أنهم سيصيرون هكذا. ومنحهم النبوءات لفائدتنا دون أن نطلب نحن. وواضح جدا أن الله يرسل الوحي دون طلب, وهو أيضا يقدم لبعض قديسيه الحلم أو الرؤيا دون أن يطلبوا. وربما في وقت لايتوقعه أحد منهم علي الإطلاق. إن يوسف الصديق منحه الله أحلاما, ومنحه موهبة تفسير الأحلام دون أن يطلب. ويوسف الصديق كل ما كان يطلبه أن يخرج من السجن الذي ألقي فيه ظلما. ولكن الله جعله الوزير الأول في مصر والثاني في المملكة. وما كان هو يطلب ذلك أو يحلم به. ولكن الله الحنون المحب أعطاه دون أن يطلب. ومعروف أن الدعوة الإلهية وصلت إلي البعض دون أن يطلبوا. لذلك يا أخي القارئ إن كنت في يوم من الأيام تحت سيطرة خطية معينة, ولاتستطيع الخلاص منها, بل لاتطلب نعمة من الله لكي تخلص. ولا حتي تقول: توبني يارب فأتوب ومع ذلك كله لاتيأس. فإن كنت لاتسع إلي خلاص نفسك, فإن الله يريد لك هذا الخلاص. ولابد أنه سيدبر لك طريقا للتوبة, أو يرسل لك مرشدين, أو يرسل لك زيارة من النعمة دون أن تطلب فيتأثر قلبك ويخشي ويرجع إليه. إن الله لايعطي فقط من أجل صلواتنا وطلباتنا, أو من أجل استحقاقنا, إنما كثيرا ما يعطي من أجل جوده وكرمه, ومن أجل احتياجاتنا.. ولاشك أن هذا يغرس في قلوبنا الرجاء مهما كانت حالتنا, ومهما كنا غير مستحقين لشئ. إن القديسين بإيمانهم بأن الله يعطي حتي دون أن نطلب, كانوا في كثير من الأوقات يخجلون أن يطلبوا شيئا. بل كانت طلباتهم الوحيدة هي القرب من الله. كما قال داود النبي في المزمور للرب: طلبت وجهك, ولوجهك يارب ألتمس. لاتحجب وجهك عني.. ومع ذلك أعطي الله الضعفاء أن يطلبوا مايشاءون إن الذي يؤمن بالله وعطائه, ينام في حضن الله ويستريح, ويكون واثقا إن الله يدبر له كل شئ. ولايتركه معوزا شيئا. بل انه يقول للرب في صلاته: هل تركت يارب لي شيئا أطلبه؟! إنني يارب لو قضيت عمري كله شاكرا فلن يكفي. لذلك إن رأيتني يارب أحتاج شيئا, أعطني إياه دون أن أطلب. إنك أدري بما ينقصني, إن كان هناك شئ ينقصني. إن عملي الوحيد هو أن أشكرك, وأن أسبحك علي كرمك, لا أن أطلب لذلك هو يطمئن إلي عمل الله من أجله, ويعيش في فرح كامل, لاتهتز نفسه لأية ظروف ضاغطة, شاعرا أن حياته هي في يد الله. وأن الله يستطيع أن يغير المواقف, ويغير القلوب, ويمهد له طريق السلام دون أن يطلب. المزيد من مقالات البابا شنودة الثالث