يتبوأ ونستون تشرشل مكانة متميزة في التاريخ الرسمي البريطاني, فقد تصدي للهجمة النازية إبان الحرب العالمية الثانية, وأسهم في إلحاق الهزيمة بالنازي الألماني أدولف هتلر.. وصار بطلا بريطانيا. هذه حقيقة لا ينكرها أحد, فقد كان الحارس القوي للامبراطورية البريطانية, والمدافع الصلب عن مصالحها, وذاك هو الوجه الرسمي الذي يشتهر به تشرشل. غير أن مؤرخا بريطانيا شابا, من ألمع المؤرخين المعاصرين وهو ريتشارد توي, يكشف في دأب وبراعة عن الوجه الآخر للزعيم البريطاني, وهو وجه قبيح قاتم لاستعماري وعنصري, وهذا ما يتضح من كتابه امبراطورية تشرشل الذي صدر أخيرا, وتناول فيه أطوارا من حياته ودوره في الحفاظ علي سيطرة الرجل الأبيض علي العالم, وتلك, فيما يبدو, كانت المهمة الرئيسية والأثيرة لتشرشل التي كرس لها جل جهوده. وكان ونستون تشرشل قد ولد عام1874 من أب بريطاني وأم أمريكية, وعندما سعي للالتحاق بالكلية الحربية فشل ثلاث مرات في اختبارات القبول, ثم أفلت بصعوبة في المرة الرابعة, وعندما أنهي دراسته العسكرية, وصار ضابطا في الجيش البريطاني شارك, علي حد قوله, في عدد من الحروب الصغيرة ضد البرابرة أي ضد الشعوب التي كانت بريطانيا تحتل أراضيها. ويشير تشرشل, بفخر وزهو, الي مشاركته في قمع وقهر الهنود, خاصة المسلمين منهم, ويصفهم بأنهم مجرد مجاهدين.. ويشرح كيف قامت القوات البريطانية بتدمير القري والمنازل وقطع الأشجار, وحرق المحاصيل الزراعية, وقد تسني له أن يشارك في معركة أم درمان بالسودان, ويقول في مذكراته إنه أطلق الرصاص علي ثلاثة من المتوحشين! علي الأقل. ويكشف الكتاب عن أن تشرشل كان ضالعا في إقامة أول معسكر اعتقال في جنوب إفريقيا, وقد زجت فيه القوات البريطانية بنحو115 ألف مواطن إفريقي, مات منهم نحو14 ألف شخص, ولكنه لم يبد أي اهتمام بالضحايا الأبرياء, وكان كل ما يؤرقه, كاستعماري وعنصري, أن الأفارقة كانوا يطلقون الرصاص علي الرجال البيض! استعماري وعنصري وأفصح تشرشل بجلاء مذهل, عندما أصبح عضوا في البرلمان البريطاني عام1900 عن حقيقة معتقداته السياسية الاستعمارية, وأبعادها الموغلة في العنصرية, فقد كان يحرض علي القيام بالمزيد من الغزو واحتلال الشعوب السوداء والملونة, وكان يبرر ذلك بأن الجنس الآري لابد أن ينتصر ويسود, وتلك العبارة تماثل تماما العبارة التي ارتكز إليها النازي الألماني هتلر وهو يشعل نيران الحرب العالمية الثانية. وانطلاقا من نظرية الرجل الأبيض, طالب تشرشل باستخدام الغاز السام ضد الأكراد في العراق عندما ثاروا ضد حكم الاستعمار البريطاني, ووصفهم بأنهم مجرد قبائل همجية يتعين نشر الرعب بينهم. وعندما اندلعت الحرب العالمية الثانية, أعلنت بريطانيا الحرب علي ألمانيا في سبتمبر1939, وأصبح تشرشل رئيسا للوزراء ووزيرا للدفاع عام1940, وقام بدور دبلوماسي كبير لتكوين ما سماه التحالف الكبير للتصدي للنازية وهزيمة هتلر. وبذل جهودا كبيرة لمحاولة إقناع أمريكا بالاشتراك مع الحلفاء في الحرب ضد نازية هتلر, لكن الولاياتالمتحدة اكتفت بتقديم المساعدات, غير أنها سرعان ما قررت الاشتراك في الحرب عقب الهجوم الجوي الياباني علي بيرل هاربر بأمريكا. وقد أثلج هذا قلب تشرشل, ونسج علاقات قوية بين بريطانيا وأمريكا, وهي ما يطلق عليها العلاقة الخاصة, ولعل هذه العلاقة قد بلغت ذروتها إبان تواطؤ توني بلير رئيس الوزراء البريطاني مع الرئيس الأمريكي جورج بوش الابن علي غزو العراق عام2003 واحتلاله. ويحرص مؤلف كتاب امبراطورية تشرشل علي الإشارة الي جريمة كبري ارتكبها الزعيم البريطاني في أثناء الحرب العالمية الثانية, وهي جريمة مجاعة البنغال بالهند, والتي كان سوء الإدارة الاستعمارية البريطانية سبب تفاقمها, ذلك أنها أودت بحياة ما بين مليون الي ثلاثة ملايين هندي, وقد رفض تشرشل تقديم أي مساعدات غذائية لإنقاذ أهل البنغال من الموت جوعا. واللافت للانتباه بشأن مجاعة البنغال, أن كتابا جديدا آخر, صدر في ذات توقيت نشر كتاب امبراطورية تشرشل, قد تناول تفاصيل تلك المجاعة والكتاب للمؤلفة مادهورسي موكورجي وعنوانه الحرب السرية لتشرشل: الامبراطورية البريطانية ونهب الهند خلال الحرب العالمية الثانية. وتشير موكورجي الي أن تشرشل كان يدعو الي زج زعماء القيادة الوطنية الهندية في السجون, وقد اتخذ سلسلة من الإجراءات العقابية الصارمة ضد المتظاهرين ضد الاحتلال البريطاني, والغريب أن السلطات البريطانية طبقت سياسات الطاغية السوفيتي جوزيف ستالين والخاصة بمصادرة أجهزة الراديو لمنع الهنود من الاستماع لأي إذاعة معادية لبريطانيا. الكراهية القاتلة وما يتعين تأمله بعمق, أن سياسة تشرشل تجاه الهند كانت تنبع من كراهيته الشديدة للهنود, وليس أدل علي ذلك, مثلا, من أنه عندما بدأ الزعيم الهندي العظيم المهاتما غاندي الكفاح السلمي ضد الاحتلال البريطاني استشاط تشرشل غضبا, وقال يتعين تكبيل يدي غاندي ورجليه بالأغلال, والقائه عند بوابات الهند, بحيث يدوسه فيل ضخم, يمتطي صهوته نائب الملك, والحاكم البريطاني العام في الهند!! والغريب أن تشرشل كان يجاهر بكراهيته للهند وشعبها, والأغرب أن كراهيته العنصرية والاستعمارية تحولت الي كراهية قاتلة. وما أن انتهت الحرب العالمية الثانية, حتي سقطت حكومة المحافظين في بريطانيا في الانتخابات العامة, واتجه تشرشل الي ممارسة الكتابة, وكانت تلك هواية قديمة منذ صدور كتابه الأول, في مستهل حياته وشبابه عام1898, كما أصدر رواية سماها سافارولا عام1900, وكان يحلو له أن يكتب مقالات في صحف بريطانيا. وقد عكف علي تأليف كتاب الحرب العالمية الثانية ونشره عام1953, ونال عليه جائزة نوبل للأدب في ذات العام. ومن الجدير بالذكر أن تشرشل هو من صك اصطلاح الستار الحديدي الذي وصف به الاتحاد السوفيتي, وصار احدي عبارات الحرب النفسية والإعلامية التي اقترنت بالحرب الباردة التي اندلعت عقب انتهاء الحرب العالمية الثانية, بين المعسكرين السوفيتي والأمريكي. وقد عاش ونستون تشرشل حتي بلغ التسعين من عمره, ويشير مؤلف امبراطورية تشرشل الي أن السياسي البريطاني قد حرص كل الحرص قبل وفاته علي تحديد التفاصيل الدقيقة لجنازته ومراسم دفنه.