كان ألبرت أينشتين, عالم الذرة الشهير في جامعة برنستون الأمريكية, هو الذي قال إنك لا تستطيع أن تحل المشكلات بنفس طريقة التفكير التي أدت إلي خلقها; وكان المعني هو أن ما يعانيه الناس من مشكلات جاء نتيجة طريقتهم في التفكير والتدبير, ولا يمكنهم الخروج منها ما لم يقوموا بالتفكير بطريقة أخري. وفي مصر فإن المشكلات كثيرة, وبالوسع إعداد قائمة طويلة منها تبدأ دائما بالفقر والتخلف عن أمم أخري, والعجز الديمقراطي, والتعامل مع إقليم بالغ القلق وعدم الاستقرار, ومن ذلك كله تتفرع قضايا ومشكلات لا نهاية لها. وخلال العقود والقرون المختلفة كانت مصر تحاول الاقتراب من كل مسألة, وكان الفشل قائما عندما كان الاعتماد مستمرا علي نفس الطريقة من التفكير التي قادت إلي المشكلة في المقام الأول; كما كان النجاح ممكنا ساعة بروز طريقة أخري للتفكير. وعلي سبيل المثال فإنه لم يكن ممكنا استعادة الأراضي المصرية المحتلة في سيناء منذ حرب يونيو1967 لو استمر التفكير بذات الطريقة التي أدت إلي هذه النتيجة; وكان الانقلاب في التفكير الذي قام به الرئيس السادات هو الذي أدي إلي التحرير بينما بقي آخرون علي حالهم, لأن ما كان يقال ويحدث نتيجة التفكير السائد خلال الخمسينيات والستينيات ظل علي حاله حتي بعد أن تغير القرن ولم يبق في الدنيا أمر علي حاله. وهناك أمثلة أخري لو تذكرنا مشكلات كانت تؤرقنا مثل تعدد أسعار العملة المصرية والسوق السوداء فيها; ومشكلات المواصلات العامة التي كانت تمشي فيها حافلات النقل العام مائلة بالزوايا الحادة بينما المواطنون معلقون فيها في مشاهد كانت مصدر تعجب في الصحافة العالمية. وكما بالوسع وضع قائمة من المشكلات التي تم حلها بطرق مختلفة, كان أغلبها عن طريق اللجوء للتجربة العالمية في الأمر, فلم يكن المجتمع المصري أبدا استثناء لا من العلم ولا من التاريخ اللهم إلا عندما قام هؤلاء الذين اعتقدوا في الحالة الاستثنائية المصرية بتفكير خاص قاد إلي معضلات ومشكلات لا يمكن الخلاص منها إلا بعد أن تتغير طريقة التفكير كلية. ومن هذه كانت معضلة النظام السياسي الذي تعرض لعشرة تغييرات وتعديلات خلال قرابة تسعين عاما من عمر الدولة المصرية المعاصرة منذ مولد دستور عام1923 ثم إلغائه عام1930 وإصدار دستور آخر, ثم عودة الأول مرة أخري بعد خمس سنوات, حتي جاء دستور1956 بعد ثورة يوليو1952 لكي يتغير مرة أخري بعد عامين لكي يتكيف مع الوحدة المصرية السورية وقيام الجمهورية العربية المتحدة عام1958, وبعد انقضاء الوحدة كان لا بد من إعلان دستوري مؤقت عام1964 استمر حتي جاء الدستور الدائم عام1971, ولم يمض عقد من الزمان علي دوامه حتي جري تعديله عام1980, وبعد ربع قرن جري تعديل آخر عام2005, ثم آخر أكبر منه في عام2007. مثل هذه الحالة من القلق الدستوري نجمت عن التغيرات التي جرت في الدولة المصرية; ولأن التفكير في مواكبة التغيير دستوريا كان يسير في ناحية, والواقع في ناحية أخري; وكانت النخبة تنزع في اتجاه, أما الشعب والناس فيسيرون في اتجاه آخر; وبينما المثقفون يضعون السياسة علي رأس الأولويات الأكثر سخونة, كانت الأغلبية تسير في حياتها طلبا للستر والأمن والأمان. وجميع ذلك كله في العملية السياسية داخل البلاد يجعلها واقعة بين الاستمرار في تقاليد تبدو مستقرة خاصة ما تعلق بها من أوضاع الانتخابات وأساليبها الصحيحة والمعيبة في آن واحد; ومحاولات أخري للتغيير والتبديل تأتي من خلال واقع المتغيرات المصرية خاصة تلك القادمة من ثورة الإعلام والتطورات التي يخلقها المجتمع المدني. وظهر ذلك فيما بات معروفا خلال السنوات الماضية بالحراك السياسي الذي تبدي في أساليب جديدة للتعبير, والتفاوض والمساومة مع الدولة, بالاحتجاج أو الضغط علي أعضاء مجلس الشعب والوزراء وإرسال الرسائل للصحف والتعليقات علي المواقع الصحفية حتي تسجيل المواقف من خلال وقفة ترصدها أجهزة الإعلام ثم يذهب الكل بعد ذلك إلي حال سبيله. شكل آخر من أشكال التجريب ظهر مع عودة الدكتور محمد البرادعي إلي مصر بعد غيبة دامت سبعة وعشرين عاما حاملا جائزة نوبل في يد والدعوة إلي التغيير والإصلاح الديمقراطي في يد أخري. ولأن الرجل لديه تجربة غربية واسعة ترفض بقوة أنواع الفهلوة السياسية الشائعة في بلدان العالم الثالث, ومن بينها مصر, فقد دعا من طالبوه من أركان المعارضة اليسارية في مصر إلي الحصول علي خمسة ملايين توقيع واضح وصريح ومدعم برقم البطاقة الشخصية أو الرقم القومي مؤيد لبرنامجه من أجل التغيير. المدهش بعد ذلك أنه جرت مساومة كبري بين أركان المعارضة الذين كانوا يتحدثون منذ لحظات عن الجموع والناس والجماهير والأمة المختلجة بنار شوق التغيير حول ارتفاع رقم الملايين الخمسة من التوقيعات عن الإمكانيات المتاحة لجمعها, وانتهت المساومة في النهاية إلي مليونين. وكان الدكتور البرادعي حصيفا عندما أصر علي رفض التوقيعات الإلكترونية علي موقع الإنترنت لسهولة التكرار فيها والدخول عليها من نفس الشخص للعديد من المرات من خلال عناوين إلكترونية متعددة. عاش الرجل في الغرب كثيرا وكان يعرف أن هذا النوع من التوقيع غير مقبول, وأن غالبية الشعب المصري تعاني من الأمية الإلكترونية, فما كان من زملائه إلا القبول ولو علي مضض. وأذكر أنني قابلت واحدا من أقطاب المؤيدين للبرادعي بعد أيام من وصول الدكتور البرادعي إلي مصر والتقائه مع مجموعات من المعارضة, وعندما سألته عن نتيجة التوقيعات الأولية كانت إجابته مباشرة أن المليون الأول قد تمت تغطيته وبسهولة; ولكن الواقع كان أنها لم تكن تعدت عشرة آلاف بعد. ومضت الشهور بعد ذلك, وعندما ظهر أنه حتي رقم المليون الذي كان خمسة ملايين في البداية مستحيلا, تحركت الحملة كلها في اتجاهين: الأول اللجوء إلي جماعة الإخوان والارتماء في أحضانها علها تغطي الفجوة; والثاني تجاهل شرط البرادعي بالتوقيع الصريح والواضح وبرقم البطاقة الشخصية واللجوء إلي موقعين للتوقيع واحد منها معبر عن الجمعية الوطنية للتغيير والآخر عن جماعة الإخوان. وكانت آخر المعلومات المتاحة عن النتائج هي812 ألف توقيع من بينها616 ألفا من التوقيع الإلكتروني, أي أن التوقيعات الحقيقية لا تتعدي مائتي ألف بعد أكثر من أربعة أشهر من الحملة. تحليل ذلك ونتائجه بالنسبة للمنافسة السياسية في مصر ليس هذا مكانها, وحسبنا هنا التسجيل أنه بات لا يكفي وجود برنامج للتغيير السياسي, والشعب المصري لا يستطيع الانتقال من مكان مالم يعرف علي وجه الدقة المكان الآخر الذي سوف يصل إليه, ولكنه علي أي حال لا يوجد لديه مشكلة مع التجريب والبحث. وربما كان ذلك دافعا لجماعات أخري, بعضها خارج الحزب الوطني الديمقراطي, وبعضها يوجد داخله, لجمع التوقيعات المؤيدة لترشيح السيد جمال مبارك لرئاسة الجمهورية; وبغض النظر عن الرقم الذي وصلت إليه التوقيعات خلال أسابيع قليلة فإن الطرح داخل الحزب الوطني يقوم علي قاعدة أن مرشح الحزب في الانتخابات الرئاسية القادمة هو الرئيس مبارك, وأن الحزب في النهاية هو الذي سوف يقرر مرشحه من خلال الأساليب التي تقرها لوائحه وقواعده القانونية. أما التوقيعات الجارية من خارج الحزب فهي تطرح وجهات نظر أخري قوامها أن التوقيعات ليست بالضرورة واجبة فقط لصالح المعارضة, وأنه يمكن البحث في سجلات التجربة المصرية خلال السنوات الأخيرة عن قيادات شابة وواعدة, والأهم أن لها بصماتها علي ما جري ويمكن تقييمه بحلوه ومره بدلا من السير في اتجاهات أخري غير مأمونة. وما يهمنا هنا هو تسجيل أن مسألة التوقيعات هي واحدة من وسائل البحث عن طرق أخري للتفكير والاقتراب من النظام السياسي; وهي تختلف تماما عن التصويت الذي يجري كنوع من الاختيار بين اختيارات متعددة لكل منها برامجها وتجربتها. وفي الولاياتالمتحدة تنتشر مثل هذه الحالة قبل وقت طويل من بدء العملية الانتخابية عندما يبدأ المؤيدون في جمع التوقيعات لشخص بعينه يعتقدون في صلاحيته للمنصب الرئاسي, وأحيانا تختلط عملية التوقيع بجمع التبرعات للمرشح; ولكن ما إن تبدأ العملية السياسية فإن الأمر قد يسير في اتجاهات أخري. وفي التمهيد للانتخابات الرئاسية الأمريكية في عام2004 حصل هوارد دين علي حشد هائل من التوقيعات, وكثير منها كان إلكترونيا بالمناسبة, حتي تصورت كثرة أنه سوف يكون المرشح الديمقراطي للرئاسة, ولكن مع الانتخابات التمهيدية سقط الرجل من الجولات الأولي وانتهي الأمر إلي ترشيح جون كيري الذي أخفق هو الآخر رغم تأييد دين القوي له. ومع ذلك فإن للتوقيعات فضيلة أنها تلقي الضوء علي شخص ما, وتضعه في موضع المساءلة والتقدير, وتعطي الرأي العام فرصة لتقييمه, ولأجهزة الإعلام مدخلا للمقارنة وإذكاء روح المنافسة; وأحيانا وفي مناسبات خاصة فإنها تعبر عن قوة سياسية فعالة خاصة في المسائل الوطنية. ولمصر تجربة في ذلك, فقد عرفت مسألة جمع التوقيعات في فترات محددة من تاريخها, خلال القرنين التاسع عشر والعشرين, لاعتبارات خاصة بالتحرر والاستقلال الوطني من الاستعمار والاحتلال وتفويض أو تمثيل المجتمع لزعماء تاريخيين مثل أحمد عرابي وسعد زغلول باتخاذ مواقف محددة أو اتباع سياسات معينة تكون في الغالب مصيرية. ففي عام1881 جمع عبد الله النديم توقيعات كثيرة من الشعب المصري تفوض الزعيم أحمد عرابي للتحدث باسمه, والذي عرض مطالب محددة لدي وصوله إلي قصر عابدين في9 سبتمبر1881 وهي: زيادة عدد الجيش إلي18000 جندي, تشكيل مجلس شوري النواب علي النسق الأوروبي, عزل وزارة رياض باشا. ولم يجد الخديو توفيق مفرا من الاستجابة لمطالب الثوار, فعزل رياض باشا وكلف شريف باشا بتشكيل الوزارة, في14 سبتمبر1881, إلا أن قبول الخديو لمذكرة إنجلترا وفرنسا المشتركة في7 يناير1882 قد دفع شريف باشا لتقديم استقالته في2 فبراير1882. ومن ثم تشكلت حكومة جديدة برئاسة محمود سامي البارودي, وشغل عرابي فيها منصب وزير الحربية, وقوبلت تلك الوزارة بالارتياح والقبول من مختلف الدوائر العسكرية والمدنية; إذ رأوا فيها تحقيقا لرغبة الأمة, وسميت هذه الوزارة باسم وزارة الثورة لأنها حققت رضا الشعب والجيش معا. كما خطرت للزعيم سعد زغلول فكرة تأليف وفد للدفاع عن القضية المصرية المرتبطة بواقع الاحتلال البريطاني للبلاد, وتحديدا بعد الحرب العالمية الأولي, وضم الوفد كلا من سعد زغلول ومصطفي النحاس ومكرم عبيد وعبد العزيز فهمي وآخرين, وأطلقوا علي أنفسهم الوفد المصري. وقام الوفد بجمع توقيعات أو بالأحري توكيلات بغرض إثبات صفتهم التمثيلية وجاء في الصيغة الموجهة إلي الشعب المصري نحن الموقعين علي هذا قد أنبنا عنا حضرات سعد زغلول ورفاقه لتحقيق المطالب المشروعة حينما وجدوا السعي سبيلا في استقلال مصر تطبيقا لمبادئ الحرية والعدل التي تنشر رايتها دولة بريطانيا العظمي. وكان الغرض من التوقيعات هو أن يتحدث الزعيم سعد زغلول باسم الشعب المصري أمام دول العالم بهدف إجلاء الاحتلال وإقرار الدستور ودعم الحريات. وشهدت مصر في العامين الماضيين سيلا من التوقيعات مثل تلك التي تتعلق برفض الإنشاءات الهندسية التي تقيمها مصر علي الحدود مع غزة, وهو ما أعلنته حركة كفاية وحزب الكرامة( تحت التأسيس) منذ شهور. كما كانت هناك حركة لجمع توقيعات تستهدف إشراك الأممالمتحدة في الرقابة الدولية علي الانتخابات البرلمانية والرئاسية المقبلة, وحاول أيضا مدرسو الأزهر للمطالبة بعزل شيخ الأزهر د.محمد سيد طنطاوي رحمه الله, فضلا عن محاولات أخري لجمع توقيعات من أجل قضايا عامة كثيرة. وللحق فإنه رغم ما دلت عليه حملات التوقيع هذه من حراك سياسي دفع لمناقشة موضوعات كثيرة, إلا أن خفوتها وتراجعها ثم انتهاءها أظهر للقائمين عليها من خلال الواقع أن ما يسعون إليه إما أنه لا يوجد ولا يرقي إلي أولويات الشعب المصري أو الجماعة المقصودة, أو أن ما استهدفته حملة التوقيع يقع ما بين الباطل الكامل والحكمة الناقصة. والتوقيعات هكذا تقوم بمهمة تعليمية, وتضع حدودا علي ما يظنه السياسيون من البديهيات. وفي النهاية فإن جمع التوقيعات هو من وسائل العمل السياسي السلمي, وهناك مواد محددة في الدستور المصري تبيح ذلك, مثل( المادة63) التي تكفل حق كل شخص في مخاطبة السلطات العامة مباشرة كتابة وبتوقيعه. كما ينص الدستور علي حرية الرأي( المادة47) وكذلك حرية الطباعة والنشر( المادة48). وفي النهاية فإنه ينبغي وضع كل هذه المحاولات في حجمها الصحيح, فالتوقيعات ليست بديلا عن التصويت, ومن ثم فإنها ليست شكلا من أشكال التصويت المقنع; فمن المفهوم أن من يجمع التوقيعات لا يمثل شرائح الشعب المختلفة, كما أن جمع التوقيع قد يخضع لقواعد الإحراج والضغط الشخصي, ولا يمكن اعتماد مليون باعتباره أغلبية في بلد مثل مصر عدد سكانه تجاوز الثمانين مليونا. ولكن مرة أخري فإن حملات التوقيع تضيف تفكيرا آخر للشكل السياسي الجاري في البلاد, وتضع أشخاصا عدة في دائرة الضوء, وتعطي فرصة للشعب المصري لكي يظهر حكمته الخاصة في أنه ليس كل ما يلمع ذهبا; ومادامت الوسيلة متاحة للجميع, وتجري في إطار قانوني وسلمي ودون احتكار من المعارضة أو الحكومة فإن علينا متابعة التوقيعات وأعدادها الحقيقية حتي يأتي وقت العملية الدستورية, وهذه دائما لها كلام آخر لأنها الحقيقة التي لا تغلب عليها حقائق أخري. [email protected]