لا يمكن أن تناقش القضايا القومية المصيرية بمنطق الفهلوة والنصب والادعاء الكاذب ويستحيل أن يتم تحليل المشكلات الكبري اعتمادا علي منظومة مضروبة من المؤشرات الاحصائية. لا علاقة لها بالواقع ولا ارتباط لها بالحقائق الفعلية وعندما تقع القضايا الرئيسية فريسة لفخاخ عدم الوضوح وعدم اليقين تغيب القدرة علي الاصلاح وتضيع بوصلة الطريق الصحيح وتكون النتيجة الحتمية أن يندفع الوطن إلي شاطيء الضياع والندامة حيث لا ينفع الندم وتقدم أزمة القمح أو بالأصح كارثة القمح نموذجا متكاملا لغياب التشخيص الصحيح وبالتالي ضياع الحلول اللازمة والواجبة ويرجع ذلك إلي التناقضات المريرة والحادة في المؤشرات الاحصائية الزراعية وفقدانها للمصداقية العلمية والواقعية وهو ما يؤكد أن المشكلة الزراعية أعمق كثيرا مما يقال وأنها أكثر تعقيدا من كل التحليلات التي تحاول رصد أوضاعها ومشاكلها واقتراح الحلول اللازمة والمطلوبة ومع غياب الشفافية بصورة شبه كاملة فإن المشكلة الزراعية تقبع في ظلام دامس وحالك يجب أولا وقبل كل شيء أن تخرج منه حتي يعرف الكل حجم الكارثة ويدرك الجميع تكلفة الاصلاح والعلاج الصعبة والمريرة. ولو أخذنا كارثة القمح نموذجا لأدركنا بسهولة ويسر طبيعة المشكلة المحورية في قطاع الزراعة وأن كل الصرخات التي أطلقت حول أزمة القمح مازالت أسيرة النفق المظلم للمؤشرات الاحصائية المتناقضة بصورة صارخة ومستفزة وكأن العالم لا يملك جهات متخصصة في أمور القمح وغيره من الحبوب يمكن الرجوع إليها لمعرفة الكمية التي تستوردها مصر وفقا للتعاقدات الفعلية مع دول العالم المختلفة المنتجة للقمح وما غادر موانيء هذه الدول متجها لمصر وما وصل إلي موانيها بالفعل من القمح وغيره من الحبوب اضافة إلي تشكيلة الواردات تفصيليا من السلع الزراعية والصناعية وغيرها من المستلزمات والمعدات وقطع الغيار وهي أمور تدعو للإنزعاج الشديد علي الحاضر والمستقبل لأن من يتصدرون للتحليل والشرح والإيضاح في كل وسائل الاعلام يفتقدون ألف باء المنطق العلمي السليم ولا يكلفون أنفسهم حتي مشقة الدخول عبر الإنترنت لمصادر المعلومات المتخصصة عالميا كمرجعية للمقارنة والتدقيق للمؤشرات الاحصائية حتي من باب الاطمئنان والثقة, وكذلك من باب الأمانة في العرض والتحليل والإدراك الواعي لحقائق الأمور وطبيعة المشاكل. وتتكشف الكثير من أبعاد الكوميديا السوداء لكارثية أزمة القمح من مجرد زيارة خاطفة وعابرة عبر الإنترنت لموقع مجلس الحبوب العالمي وكذلك لمجلس القمح الأمريكي الوثيق الصلة ببورصة شيكاغو العالمية للحبوب التي يفترض أنهما من المواقع المشهورة والمعروفة للمسئولين عن الزراعة والتجارة في مصر كما في غيرها من دول العالم وكذلك للخبراء والمختصين والأكاديميين المهتمين بالزراعة والراغبين في الكتابة بالشرح والتحليل حول مشاكلها وتمثل مؤشرات الموقعين الاحصائية مرجعية تملك الكثير من مقومات الثقة والاعتبار بمعايير العلم وبمنطقه وأساليبه لأنها تقدم عبر سلسلة زمنية متصلة التعاقدات الفعلية التي تم اتمامها عن طريق كل دولة من دول العالم لاستيراد القمح وغيره من تشكيلة الحبوب وكمية التعاقدات مع كل دولة منتجة بشكل تفصيلي دقيق وبالتالي هي السبيل الوحيد لتدقيق الموشرات الاحصائية الزراعية الوطنية الصادرة عن الدول وانكشاف ما بها من صواب وخطأ بحكم ارتكاريا الخوف من الحقيقة التي تصيب المسئولين في الدول النامية خاصة المسئولين بقطاع الزراعة وتدفعهم لإصدار مؤشرات احصائية بعيدة تماما عن الواقع ومخالفة للحقيقة بشكل كامل. في مصر المحروسة تتجرأ المؤشرات الاحصائية الراعية الرسمية للتحدث عن اكتفاء ذاتي من القمح يصل إلي50% من حجم الاستهلاك الكلي ويصل الأمر أحيانا للحديث عن اكتفاء ذاتي يبلغ55% ومع محبي النكت السخيفة فإن الاكتفاء الذاتي يصل إلي60% وكأن المؤشرات الاحصائية يصلح معها منطق المزايدة والمزادات وكأن المؤشرات الرسمية يصلح فيها عقلية المساومة وحتي يمكن الوصول إلي تحليل يقول بأن نسبة الاكتفاء الذاتي من القمح50% مثلا فإن التحليل النهائي يجب أن يعتمد علي تزوير طرفي المعادلة وأولي الحلقات ترتبط بتعديل وتحريف كمية الانتاج المحلي من القمح التي تعتمد علي المساحة المنزرعة ومتوسط الانتاج للفدان الواحد وهو ما يدخل في صميم الامكانيات الرسمية أما الحلقة الثانية المرتبطة بتعديل وتحريف كمية الاستيراد من الخارج فهو ما يخرج عن المألوف والشائع بحكم أن كمية الاستيراد يتم الاعلان عنها عالميا ويتم رصدها وتجميعها وهي تفرض علي من يعرف أبجديات الاقتصاد والاحصاء والزراعة أن يدرك من اللحظة الأولي أن نسبة الاكتفاء الذاتي من القمح لا تتعدي35% في أفضل التحليلات وأنها تصل إلي30% فقط وفقا للتحليل العلمي المنضبط والصارم وهو ما يعني أن الانكشاف الغذائي من القمح يصل إلي70% من جملة الاستهلاك وهو تقدير مروع يحمل معاني الكارثة بكل أبعادها وملامحها في ضوء متغيرات العالم العاصفة المتوقعة والمرتقبة في سوق الحاصلات الزراعية الاستراتيجية وليس القمح فقط. ببساطة شديدة وفقا لاحصائيات مجلس الحبوب العالمي ومجلس القمح الأمريكي فإن مصر هي المستورد الأول عالميا للقمح تتربع علي القمة بغير مزاحمة وبدون منافس ووفقا للمؤشرات الأخيرة فإن مصر استوردت10 ملايين طن قمح في العام الأخير الذي يبدأ من أول يوليو2009 وينتهي في30 يونيو2010 وهو نفس معدل وارداتها من القمح في العام السابق ويعني ذلك ببساطة وحتي يمكن القول أن مصر تنتج50% من احتياجاتها من القمح أن مصر لابد أن تكون قد أنتجت10 ملايين طن محليا كما يعني أيضا أن حجم الاستهلاك الكلي من القمح يصل إلي20 مليون طن في حين أن كل الأحاديث الرسمية تتحدث عن استهلاك اجمالي يتراوح بين13.6 و14 مليون طن. وتعني الفجوة في المؤشرات الاحصائية أن هناك6 ملايين طن قمح ضائعة ومفقودة لا أحد يعرف مصيرها ولا أحد يعرف مكانها ولا أحد يعرف مصدرها خاصة أن المؤشرات الرسمية الزراعية تتحدث عن مساحة منزرعة من القمح تبلغ2.5 مليون فدان فقط لا غير وتتحدث عن متوسط لإنتاج الفدان يبلغ2.2 طن فقط لا غير مما يعني أن الانتاج الاجمالي الحقيقي لو صدقت وصحت تقديرات المساحة المنزرعة ومتوسط الانتاج يصل إلي5 ملايين طن من القمح وبحكم أن السماء لا تمطر قمحا فإن حقيقة الاكتفاء الذاتي وفقا للأرقام الرسمية للاستهلاك الاجمالي لا تتعدي42% من الاحتياجات الاستهلاكية ولكن في ضوء ما تم تسليمه وتوريده للحكومة من محصول العام الأخير والبالغ2.1 مليون طن فقط لاغير وكان من المستهدف أن يتم توريد3.5 مليون طن فإن حقيقة كمية الانتاج المحلي ومتوسطات انتاج الفدان والمساحة المنزرعة لابد أن يثار حولها الكثير من التساؤلات المشروعة علميا ومنطقيا, خاصة أن تصريحات المسئولين تحدثت عن زراعة مساحة من الأراضي تتراوح بين2.1 و2.5 مليون فدان بالقمح فقط لاغير في الموسم الأخير, في حين دخل البعض في مزايدة من مزايدات الفهلوة الرخيصة ليتحدث عن زراعة2.7 مليون فدان وكأن القضايا المصيرية يجوز فيها أحاديث الهزل والفكاهة الساذجة. والمثير اقتصاديا واحصائيا أن تقديرات مجلس الحبوب تتحدث عن كمية واردات تبلغ نحو20 مليون في العامين الأخيرين بمتوسط9.5 مليون طن سنويا وتتحدث عن كمية واردات تبلغ15 مليون طن في العامين السابقين كما تتحدث عن11 مليون طن في العامين السابقين عليهما أي في عامي(2005 2006) وعندما كانت مصر تستورد5.5 مليون طن سنويا كان حديث المسئولين ان الانتاج المحلي يغطي50% من الاستهلاك وعندما قفز الاستيراد الي7.5 مليون طن سنويا تحدث المسئولين أيضا عن اكتفاء ذاتي بنسبة50% وعندما تصاعدت الأرقام بشكل جنوني لتصل الواردات إلي10 ملايين طن سنويا استمر الاصرار أيضا علي أن الانكشاف الغذائي من القمح لايتعدي50% وكأن لا أحد في مصر يجيد الحساب وكأن الجميع يجهل أبجديات الطرح والجمع والقسمة وهو مايدعو للأسف والانزعاج ليس فقط لأن المسئولين لايرغبون في كشف الحقيقة ولكن أيضا لأن الخبراء والمختصين يقعون صرعي أمام عتبات الحقيقة وكأن الجهل بالواقع قد تحول إلي صنم لايمكن الاقتراب منه ولايمكن مناقضته والحديث عن عوراته وسوءاته. وبعيدا عن غابة التناقضات في المؤشرات الاحصائية ولو قبلنا بمنطقية الاحاديث الرسمية عن استهلاك اجمالي من القمح يبلغ14 مليون طن وقبلنا بالضرورة التقديرات العالمية عن واردات تبلغ10 ملايين طن لكانت كمية الانتاج المحلي الاجمالي لا تتعدي4 ملايين طن وكان الاكتفاء الذاتي لا يتعدي35% فقط من الاستهلاك الاجمالي لان تحقيق اكتفاء ذاتي من القمح بنسبة50% يتطلب انتاجا محليا يبلغ10 ملايين طن ويستوجب أن يتم رفع تقديرات الاستهلاك الاجمالي إلي20 مليون طن سنويا وهو ما يخرج عن كافة الحسابات الاقتصادية المتعارف عليها في مصر والعالم. ويتحدث الكثيرون من أهل الزراعة المسئولين والخبراء بمنطقة العطارين والعلاج بالأعشاب الطبيعية وفقا لما ورد بتذكرة داود في القرون الوسطي ويرفضون الخروج عن قوالب صماء وتوابيت تحنيط مهما تغير الزمن وتبدلت الأوضاع وظروف الحياة المعيشية في الريف المصري ويحسبون من باب الراحة والاستسهال وحتي يمكنهم اصطناع المؤشرات الاحصائية وفقا لمصالحهم الدعائية وأهوائهم الشخصية أن ما يتم توريده للحكومة لايتعدي ثلث الانتاج وأن الفلاح يستبقي ثلثي المحمول ثلث لاحتياجات الأكل وثلث لاحتياجات تغذية الماشية وكأنهم لايدركون أن الفلاح يعتمد في غذائه علي العيش المدعوم وكأنهم لايعلمون أن الفلاح قد توقف عن تربية الماشية مع انتشار الأمراض الوبائية علي نطاق واسع وعجزه عن مواجهتها ورفض الأجهزة الحكومية مساعدته لعجزها عن مواجهة هذه الأمراض وتمكنهم هذه الحسبة البعيدة تماما عن الواقع من الصراخ بالصوت الحياني بما يدعون ويما يفبركون من أرقام واحصائيات بحكم ان سدنة معبد الزراعة المقدس لايمكن الاقتراب منهم ولايمكن التعليق علي أقوالهم المقدسة. *** وبعيدا عن تقديرات الاكتفاء الذاتي وضرورة تصويبها حتي ندرك الحجم الحقيقي للمشكلة وطبيعة الانكشاف الغذائي من القمح السلعة الاستراتيجية بالغة الأهمية للحياة والوجود والاستقرار في مصر فإن هناك جانبا لايقل أهمية وخطورة وهو المرتبط بالحديث عن انتاجية الفدان وتصريحات الوزير أمين أباظة وزير الزراعة عن استنباط أنواع جديدة من القمح متوسط انتاجيتها22 أردبا للفدان وحديث بعض المسئولين عن قدرتها علي إنتاج25 أردبا وضرورة إدراك أن هذه الأحاديث قديمة ومتكررة ومستهلكة لأن هذه التقاوي هي التي يزرع منها القمح بالفعل منذ سنوات عديدة ولم تحقق هذه المتوسطات علي الاطلاق وفي العام السابق تم الحديث عن متوسط انتاجية يبلغ17 أردبا للفدان وخلال الموسم الزراعي الأخير تم الحديث عن12 إردبا كمتوسط في ظل الظروف المناخية غير الملائمة وفي ظل الآفات والأمراض التي أصابت المحصول وتتطلب أبحاثا عالية مكثفة وجادة بحكم أن متغيرات المناخ أصبحت ظاهرة عالمية مما يعني أن التوسع الرأسي عن طريق زيادة الانتاجية يوشك أن يدخل الي نفق مظلم مع عدم توافر الامكانات والجهود والتمويل اللازم للبحوث الزراعية ومخاطر الأمراض الجديدة في حال استيراد تقاو وبذور من الخارج وغيرها من المحددات العملية الكثيرة مما يحتم أن تصبح الثورة العلمية الزراعية في مقدمة الأولويات وعلي رأس قائمة الاصلاح ليس فقط للقمح ولكن لكافة المحاصيل الزراعية الاستراتيجية حتي يمكن للانتاجية العالية أن تغطي محدودية المساحة المحصولية ومحدودية المياه المتاحة للري. وفي ظل المتغيرات العاصفة لاقتصادات الزراعة المصرية وما أدت إليه من ارتفاع كبير في أسعار الأسمدة والتقاوي وتكاليف العمالة الزراعية وتكاليف الري والحصاد والميكنة الزراعية فإن اقتصادات المحاصيل كاملة تعاني من أزمة خانقة نتج عنها أن تكاليف زراعة المحصول الواحد مثل القمح أو الأرز أو الذرة تكاد لاتغطيها عائدات بيع المحصول كاملا بخلاف تكلفة إيجار الأرض الزراعية ذاتها وهو مايمكن إدراكه بسهولة من مراجعة تأثيرات قرار منع زراعة الأرز في مساحات كبيرة من الأرض الزراعية وعدم توافر البديل الزراعي إلا في حدود محصول واحد هو الذرة مما دفع الفلاحين لتبوير الأرض مع الارتفاع الكبير في تكاليف زراعة الذرة وانخفاض أسعار بيعها وتدنيها مما يجعل قرار زراعة الأرض بالخسارة قرارا يصعب اتخاذه؟.