توقفنا عند الأسئلة الجدلية عن ماهية الإسلام, هل هو طفرة في تاريخ البشر؟!.. فمن أين جاء؟!, أو إذا كان مجرد مرحلة في مدارج التطور الإنساني.. فكيف حدث هذا؟! كنا نتحاور مع الدكتور هانز ولفجانح, والدكتورة كريستين فيلش عن الأديان, وقلت لهما يمكن أن نستخدم المنهج الماركسي في التفكير والتحليل في إثبات أن الإسلام دين من السماء, وأن محمدا رسول من عند الله, فأبديا دهشة وتعجبا, ورحت أجيب عن تلك الأسئلة الجدلية, لكي نفهم ماجاء به الإسلام, علينا أن نتعرف أولا علي البيئة التي سطع فيها, وهي بيئة جاهلية صحراوية بدوية رعوية شديدة التخلف بالنسبة لزمانها, قبائل متناحرة, وتراكيب اجتماعية بسيطة وثقافة فقيرة عمادها الشعر والفخر وشرف القبيلة, وعلي تخوم هذه البيئة تنتصب حضارتان تسودان العالم, حضارة الروم وحضارة الفرس, فنون وآداب وعمارة وثقافة ومدارس فلسفية وجيوش منظمة, ثم ترقد بقايا حضارة اليمن القديم في جنوب شبه الجزيرة العربية. وإذا اقتربنا من مركز الدائرة, وأقصد مكة وأهلها, نجدها قد تزيد درجة أو أكثر قليلا علي سكان البادية, ولها مصدر أساسي للرزق, رحلتان للتجارة الي الشام واليمن صيفا وشتاء, والتجارة تقوم علي زوار الكعبة الذين يتوافدون عليها من كل أنحاء الصحراء المترامية. كان هؤلاء العرب يعيشون في جزيرتهم شبه منعزلين عن العالم, لا يطلون عليه إلا نادرا, ولا يعرفون من أمره إلا القليل, حسب ماتتيحه الرحلتان وبعض شيوخ ثقاة مغرمين بالمعرفة مثل ورقة بن نوفل وغيره. والنبي محمد حسب روايات شائعة كان أميا لا يقرأ ولا يكتب, وإن كان باحثون عظام لهم ثقل كبير قد نفوا الأمية وبرهنوا بشكل ما علي أن الرسول عرف القراءة والكتابة, لكنه بالقطع لم يعرف لا لغة الفرس ولا لغة الروم, وبالتالي لم يطلع علي معارفهم من قوانين ونظم وفنون. وأيضا لم يعرف عن العرب في تلك الفترة أو قبلها أنهم ركبو البحر إلي الهند أو الصين, لينقلوا عن هاتين الحضارتين القديمتين ما ابتدعتاه من معارف وفنون. باختصار كان العرب حالة بدائية من الحضارة, بلا صلات أو روابط نشيطة مع حضارات الآخرين, سواء المحيطون بهم أو السابقون عليهم, لا علم لديهم بقوانين وتنظيم علاقات ومعاملات أي مجتمعات حولهم. وقد مضت أيام محمد قبل الرسالة مثل بقية أهل مكة من الناحية الحضارية, وإن اختلفت في تفاصيل انسانية تتعلق بمكارم الأخلاق ورجاحة العقل وسمو النفس ورفعة المكانة. وإذا نظرنا الي القرآن الكريم وتفحصنا ما ورد فيه من أحكام في المعاملات والعلاقات والحقوق والواجبات, فعلينا أن نسأل سؤالا بديهيا: من أين يمكن لمحمد أن يأتي به؟.. خذ مثلا الميراث كما جاء في القرآن, تجد أن قواعده غير مسبوقة لا في أي دين أو ثقافة, لا في الحضارات القديمة من مصرية وفينيقية أو هندية وصينية, ولا في الحضارات المعاصرة له من فارسية أو بيزنطية, أحكام الزواج والطلاق من أول الخطبة الي التسريح بإحسان, حكايات الانبياء التي لم يرد ذكرها إلا في القرآن مثل ذي الكفل من أين عرف محمد بأمرهم؟, ومن علمه حكاياتهم؟ هذه مجرد نماذج محدودة.. ناهيك عن بقية أحكام القرآن. إذن نحن أمام نسق من التشريعات لم يعرفها البشر من قبل, تشريعات تحكم علاقات شديدة الخطورة علي سلامة بنية الجماعة الانسانية, كعلاقة الرجل والمرأة, الرعية وولي الأمر, التكافل بين أفراد الجماعة بشكل منظم وملزم, حقوق الانسان وواجباته تجاه الآخر, الإنسان غير المصنف الي مقاتلين وشرفاء وعبيد عند فلاسفة اليونان وهم يبحثون أمور الجمهورية في محاوراتهم الفلسفية. لا أريد أن أطيل عليكم.. لكن المؤكد أن ماجاء بالقرآن هو معارف روحية ومادية مقطوعة الصلة بثقافة أهل الجزيرة العربية, ومتجاوزة كل ما ورد في الحضارات السابقة والمعاصرة, ويحتوي علي أحكام في العلاقات والمعاملات مستحدثة تماما, بينما البشر معتادون علي صناعة الأحكام لحياتهم لتلائم ما يستجد في الواقع ولم يرد في معارفهم مايفسره أو ينظمه, ولم يحدث أن وضعت جماعة انسانية احكاما وقانونا لأشياء وأوضاع لم تصادفهم فيها مشكلات تستوجب حلا مبتكرا, لأن حركة الإنسان الفرد في تطورها واحتياجاتها دائما أسبق من حركة الجماعة, وكلما استجد نشاط أو سلوك يلاحقه المشرع بالحل العام. من كل ماسبق يمكن أن نصف الإسلام بنسقه الديني والفكري والمعرفي بأنه طفرة في حياة الناس.. فمن أين جاء؟ هل محمد في ظروف البيئة التي عاش فيها وثقافتها يستطيع أن يؤلف شيئا كهذا؟! هل سبق لمفكر أو فيلسوف أو كاهن أن أنتج هذا القدر من الجدة والمعرفة في أي عصر منذ بدء الخليقة؟ بالطبع.. لم يحدث.. إذن من أين جاء؟! الإجابة ببساطة من قوة أكبر وحكمة أعظم من الإنسان بكثير, قوة لا نراها لكن نستشعر وجودها العظيم حولنا, هذه القوة العظيمة هي الله سبحانه وتعالي. والسؤال التالي هو: كيف أوصلت هذه القوة العظيمة رسالتها إلينا؟, من الذي أبلغنا بالقرآن والأحكام الواردة فيه والمرسلة من الله؟ ببساطة أيضا.. عن طريق بشر منا, هو رسول هذه القوة العظيمة إلينا, ومحمد هو الذي أبلغنا الرسالة.. إذن هو رسول الله. ران صمت علي الحاضرين, فقلت: أليس هو هذا المنهج الماركسي الذي تؤمن به؟ قال: نعم.. وما تقوله فيه كثير من المنطق والحجة, لكنني لا أستطيع أن أرد عليك, لأنني لم أقرأ القرآن ولا أعرف الإسلام! ضحكت قائلا: ها أنت تعترف بخطأ فاحش في حق الدكتوراه التي تحملها, فكيف تحكم علي دين لا تعرف عنه شيئا, أنت مثل أغلب الغربيين يتعاملون مع الإسلام بالسمع وتصيد أخطاء المسلمين الآن وهم في حالة تخلف وضعف مزرية.