إذا أردنا ان تكون لنا مكانة في العلم والتعليم فلابد من تهيئة جامعاتنا للابداع والابتكار والبحث والتطوير أو أن ننشئ جامعات بحثية جديدة كبديل لتركز علي ذلك وتجعله جل همها. وقد يكون من المناسب ان نبدأ بتصنيف وطني واقليمي لجامعاتنا لننطلق منه إلي العالمي. أقول ذلك بمناسبة حلول موسم التسويق الجامعي الذي تتباري فيه جامعات مصرية وعربية علي كل لون في الترويج لنفسها والدعاية لبرامجها وشراكاتها الدولية. ومع ما لا حظناه في الآونة الأخيرة من تسارع وتيرة التوجه الي فتح فروع لجامعات أجنبية معروفة بدول عربية غنية دول الخليج تحديدا حتي بدا الأمر وكأن العرب أصبحوا سوق جامعات العالم. أعرف مسبقا أن مصر لم تشهد بعد مثل تلك الموجة لكنها ستجئ اذا استمر حالنا علي ما هو عليه ولم نقم بما يجب القيام به لإصلاح التعليم والبحث العلمي. وأعرف أيضا أن فتح فروع لجامعات أجنبية أو منح شهادات جامعات أجنبية يختلف عما يسمي عندنا بمصر الجامعة الأمريكية أو الروسية أو البريطانية أو الكندية أو الألمانية أو الفرنسية... الخ, فتلك كلها تمنح شهادات جامعية مصرية في النهاية, أما الفروع الأجنبية فتمنحك شهادة الجامعة الأم سواء كانت ميدل سكس الانجليزية بدبي أو كورنيل بقطر أو جامعة نيويورك بأبوظبي وهكذا. الفرع يعني اذن أنك تحصل علي شهادة جامعة لها رنين دون أن تكبد نفسك المشقة التي تحدث عنها الحديث الشريف الذي دعا إلي طلب العلم ولو في الصين, ودون حتي ان تنتقل الي ما هو أقرب وأيسر من الصين. وقد يظن البعض ان الأمر عادي بل ويقولون ما الذي يقلقك والعالم الآن يعيش عصر التعليم عن بعد والجامعات الاليكترونية؟ وردي هو أن علينا أن نفرق بين شهادة جامعية وبين تعليم جامعي حقيقي. والشهادة لا بأس بأن تأخذها من فرع امعة أيا كان أو عن بعد أو عن قرب لكن التعليم الحقيقي الذي يربي في الانسان القدرة علي النقد والتقييم والرغبة في الاستزادة التي لا تتوقف من المعارف الجديدة ويحفز علي ارتياد المجهول والبحث والتعمق واكتشاف الكون والطبيعة. هذا التعليم لن يحدث ان جاء مغلفا أو علي طبق من ذهب إلي أحد أو خضع لقاعدة توصيل الطلبات الي المنازل ولا يمكن ان يخضع لها مستقبلا مهما حاولوا تحليته في أعين الزبائن. ولم نسمع يوما أن كوريا أو اليابان أو ماليزيا أو سنغافورة أو الصين قد بنوا نهضتهم باستجلاب جامعات أجنبية إلي بلادهم بل سمعنا عن معاهد التكنولوجيا الهندية الحديثةIIT وناشيونال شينجوا بالصين ومثلها ناشيونال شاوتنج وجامعة سول بكوريا الجنوبية والجامعة الوطنية بسنغافورة, وتلك هي الصروح التي قامت عليها انطلاقة تلك الدول. ان علي من يتحمس أيضا للفروع والشهادات الأجنبية أن يدرك أن الهوة واسعة بين أن يذهب الطالب للتعلم في جامعة امريكية في امريكا ويعايش أهل البلاد وينغمس في ثقافة التعلم ويتفاعل مع الأساتذة والطلاب والوسط المحيط ويتعرف علي الميول والعادات ويحيا مناخ الحرية والمسئولية وممارسة الأنشطة البناءة مع زميلات وزملاءه وامتلاك القدرة علي النقد, وفرق بين أن تأتي تلك الجامعة الأمريكية لتفتح فرعا لها في بلد عربي فيحصل ذلك الطالب علي الشهادة دون أن يبارح منزله وأنا افترض هنا جودة التعليم الذي يقدمه الفرع ولا اتحدث عن الجامعات الأجنبية المشبوهة وما اكثرها. علينا كذلك أن نعرف أن الجامعات الأجنبية تنظر إلي الأمر علي أنه تجارة ووسيلة لزيادة مواردها لتنفق علي أعمالها في بلادها الأصلية ليس إلا. إن الانفتاح علي العالم وما يجري فيه وعلي مراكز العلم الشهيرة ومعاهد الأبحاث أمر حتمي وأنا مع القائل بان انتقال المعرفة عبر الحدود هو الذي يصنع التقدم والارتقاء الانساني وهو محرك الابتكار لذا أدعو إلي الاستعانة المدروسة بكل خبرة أجنبية مميزة شريطة أن يتم ذلك في ظل وضوح رؤية وبقرارات مدروسة واختيار دقيق للبرامج التي يتم التعاون فيها مع الأجنبي وأخذ الأفضل من كل جامعة عالمية, بمعني ألا نأخذ من جامعة أجنبية كبيرة كل شئ مهما كانت سمعتها لأنه توجد جامعات قد تكون أقل في التصنيف لكنها متميزة في هذا الفرع أو ذاك عن الأفضل تصنيفا, ولنا في التجربة المصرية في القرنين19 و20 أسوة حسنة فقد نجحت مصر في بناء قاعدة تعليمية عريضة بفضل ابنائها ومفكريها منذ عهد محمد علي الذي أوفد المبعوثين في البداية لنقل المعرفة والخبرة واستعان بالأجانب حين لم يكن مفر إلي أن خلق نهضة علمية وبحثية ثم صناعية لاحقا غيرت وجه مصر والمنطقة. وهنا نذكر شخصيات عظيمة مثل رفاعة رافع الطهطاوي والأفغاني والإمام محمد عبده وزكي مبارك وقد تنبهت الحركة الوطنية بقيادة مصطفي كامل ومحمد فريد وسعد زغلول وأترابهما مبكرا إلي أهمية التعليم العالي فتكاتفت الجهود لانشاء الجامعة المصرية1908( القاهرة حاليا) بمجهود أهلي جبار ساهم.. ولم يخظر ببال احد وقتئذ أن يفتح فرعا لجامعة أجنبية ولو كان فعل لعذرناه لكن الوعي الوطني المتأجج قاد الأمة إلي ان تعرف انه لا يمكن بناء نهضة وطنية من دون تعليم وطني رفيع المستوي حتي لو تمت فيه الاستعانة بأساتذة أجانب في تخصصات بعينها كما فعلت جامعة القاهرة في البدايات وكما يجب ان يتم طوال الوقت. قادت تلك الجامعة مسيرة التحديث والنهضة وتلاها اقامة جامعات عديدة مثل عين شمس والاسكندرية وأسيوط, وأرسلت مصر البعثات تباعا ووضعت انظارها علي العالم وانجبت علماء ومفكرين وأدباء عظاما, ومن المهم القول ان التعليم في الجامعات الأجنبية لا يمتاز بأنه يمنح معلومات لا تمنحها الجامعات المحلية, فالمعلومات اصبحت متاحة للجميع ومثلها المعرفة, ومن السهل أن تدرك أي جامعة محلية ما جري من تغيير في المقررات بالجامعات الأجنبية وتفعل مثلها, لكن المختلف حقا في الجامعات الأجنبية العريقة هو اسلوب التعليم وفتح الباب للابتكار والابداع وتوفير الامكانات والمدرسين ذوي القدرات العالمية والسمعة الرفيعة والذين يعد التعلم علي أيديهم ميزة كبري لمن تتاح له الفرصة. لا حل إذن سوي بناء قدرتنا الذاتية.