تكلمنا في العدد الماضي عن محبتنا لله. ونود اليوم أن نذكر بعض الأسباب التي تقودنا إلي محبة الله. ولعل من أولها تذكار إحساناته إلينا وإلي أحبائنا. وهذا أمر واضح. فإنك إن تذكرت جميل إنسان عليك, أو إنقاذه لك, أو وقوفه إلي جوارك في ضيقاتك, لابد ستحبه. وإن استمر في ذلك فسوف تتعمق محبته في قلبك.. فكم بالأولي إحسانات الله التي لا تعد!! وهذا الأمر اختبره داود النبي فقال في أحد مزاميره: باركي( سبحي) يا نفسي الرب ولا تنسي كل إحساناته. وأول إحسانات الله إليك إنه خلقك, أي منحك نعمة الوجود. خلق التراب أولا, ثم جبلك من هذا التراب. وأتذكر إنني قلت بضعة أبيات في هذا الأمر هي: يا تراب الأرض يا جدي وجد الناس طرا أنت أصلي, أنت يا من أقدم من آدم عمرا ومصيري أنت في القبر إذا وسدت قبرا علي أن كرم الله لم يكتف بأن يمنحك الوجود, بل أضاف إلي ذلك عقلا منحه إياك, بما يحمل هذا العقل من إمكانيات التفكير والفهم والاستنتاج والذكاء, وقدرة هذا العقل علي الاختراع والانشاء وأمور عالية جدا. لكن الانسان للأسف الشديد بدلا من أن يشكر الله علي كل هذه الإحسانات, فإنه يتكبر ويتعالي ويقول: أنا.. أنا.. وعن هذا الأمر قلت في بعض أبيات من الشعر: قل لمن يعتز بالألقاب إن... صاح في فخره من أعظم مني أنت في الأصل تراب تافه... هل سينسي اصله من قال إني...؟! إن الذي ينسي إحسانات الله هو الذي يفتخر بذاته وبمواهبه.. سواء كان له عقل أو ذكاء أو حكمة, أو جمال وجه أو جمال صوت, أو مواهب فنية أو حتي جمال خط.. مع مواهب أخري روحية, وما أعطاه الله من نعمة في أعين الناس, ومحبته في قلوب الآخرين.. والأولي أن يتذكر أن كل هذه هي من إحسانات الله إليه. عليه أن يشكر الله ويحبه الذي منحه كل ذلك. ويقول في صلاته: كم أحبك يارب من أجل هذه النعم التي أعطتني إياها! أو كم ينبغي أن أحبك. وأيضا تحب الله من أجل إحساناته إلي أصدقائك وزملائك وأحبائك, بل من أجل إحساناته أيضا إلي الوطن وإلي بلادها كلها.. فمن العجيب أننا في الكوارث, نذكر من حلت بهم المصائب فنحزن ونتضايق. وفي نفس الوقت لا نذكر أحباءنا ومعارفنا الذين أنقذهم الرب من ذلك وخلصهم بوسائل تكاد تكون ضمن المعجزات لذلك إجلس إلي نفسك وتذكر إحسانات الله إليك, منذ ولادتك وإلي الآن. اذكر أيضا ستر الله عليك في خطايا ارتكبتها, لو عرفها الناس ما كانوا يحترمونك. ولكن الله الذي يعرف خطاياك كلها, والتي لا يعرفها أحد غيره, مع ذلك يستر ويغفر. بل إن إحسانات الله إليك قد سبقت ولادتك أيضا: فكان من الممكن أنك لا تولد, ولا تأتي إلي عالم الوجود, لأي سبب يتعلق بأبيك أو بأمك. وكان ممكنا أن ترث وأنت جنين بعض الأمراض, أو بعض النقائص. ولكن الله حفظك منها جميعا. ومنحك أن تولد إنسانا سويا جسدا وعقلا ونفسا. فهل يجوز لك أن تنسي كل هذا؟! إنك لو ذكرت جميل الله عليك في تلك الفترة, لازدت حبا له. وأذكر أيضا حفظ الله لك في طفولتك, وكيف أن الله جعل هذه الفترة من حياتك تمر بسلام, وأتي بك إلي هذه الساعة التي تقرأ فيها هذا المقال.. قل إذن في صلاتك: أنا أحبك يا الله من أجل طول أناتك علي, وصبرك وإحسانك إلي, علي الرغم من كثرة إساءتي إليك وكسري لوصاياك. إذا أردت أيضا أن يمتليء بمحبة الله, لا تنسب إحساناته إلي غيره, لا تنسبها إلي الناس أو إلي نفسك... فكثيرا ما أنجح الله عملك, فكنت تنسب النجاح إلي ذكائك وقدرتك, وتنسي الله الذي ساعدك وأعانك! وكثيرا ما كان الله يرسل إليك إنسانا ينقذك فتنسب كل الفضل إلي ذلك الانسان, وتنسي الله الذي أرسله إليك!... وقد تمرض وتحتاج إلي عملية جراحية خطيرة, ويجريها لك أحد الأطباء المشهورين وتنجح العملية وتشفي, وتعزو بشفائك إلي نبوغ الطبيب وخبرته العالية, وتنسي الله الذي أمسك بيد الطبيب وقاد عقله ومنحه الموهبة.. وفي نسيانك لله وعمله, تفقد الشعور بإحسانه إليك, وتفقد سببا تحبه به. والعجيب أننا فيما ننسب الخير الذي نناله من الله إلي غيره, فإننا ننسب كل مشاكلنا إلي الله!!... وكل مصيبة تحل بنا ننسبها إلي الله, ونعاتبه عليه. ونظل نشكو لكل أحد ونقول إن الله أهملنا, فأين رحمته إذن وحنانه؟! وقد تكون تلك المشكلة بسبب الناس الأشرار, ولكننا ننسبها إلي عدم محبة الله لنا!! وقد تكون المشكلة بسبب إهمالنا نحن أو أخطائنا, ولكننا ننسبها إلي الله أيضا!! أما أنت يا أخي, فكل بركة تأتيك, إنسبها إلي الله, لا إلي الناس ولا إلي نفسك. وكل مشكلة تصيبك, ارجعها إلي أسبابها الطبيعية الحقيقية. ذلك لأن الله هو مصدر كل خير, ولا يأتي شر من جهة الله إطلاقا... إنه الذي يظل يحسن إلينا حتي إنا نسينا إحساناته. إن إحسانات الله تصل بنا إلي الشكر عليها. والشكر يوصلنا إلي محبة الله, وليس إلي مجرد الفرح بإحساناته وإنما نري أن إحسانات الله دليل علي محبته لنا, فنبادله حبا بحب. المزيد من مقالات البابا شنودة الثالث