نشر الدكتور عبدالمنعم سعيد مقالا مطولا في جريدة الأهرام الصادرة يوم2010/6/14 بعنوان( أسباب كثيرة تدعو للقلق!). وقبل أن نتناول الرد علي ما ورد في المقال نري أن هناك بعض الحقائق الأساسية المتعلقة بهذا الموضوع يجب اخذها في الحسبان وتتمثل فيما يلي: الحقيقة الأولي.إن حرية الصحافة تعد من صور حرية التعبير الأكثر أهمية والأبلغ أثرا ومن ثم فقد كفلها الدستور بنص المادة48 كما أكد الدستور بنص المادتين208,207 المضافتين اليه ضمن مواد أخري نتيجة الاستفتاء علي تعديله مبدأ حرية الصحافة واستقلالها في مباشرة رسالتها محددا لها اطرها التي يلزم الاهتداء بها ويكفل عدم تجاوز هذه الحرية لأطرها الدستورية المقررة بما يضمن عدم اخلالها بما اعتبره الدستور من مقومات المجتمع ومساسها وبما تضمنه من حقوق وحريات وواجبات عامة وإلا غدت حرية التعبير وما يقترن بها فوضي لا عاصم من جموحها وعصفت بشطفها ثوابت المجتمع. والملاحظ انه تكررت في الآونة الأخيرة وعلي نحو ينذر بالخطر حوادث الاعتداء علي القضاء ورجاله حتي اصبحت ظاهرة وتكرر العدوان بالقول والسب والتلويح في الصحف القومية والخاصة من خلال مقالات تنشرها الصحف لكتاب كبار وآخرين من هواة الشهرة بما يعتبر إهانة للقضاء وذلك من خلال التهجم والتشهير ونشر الاتهامات المحرجة لهم بهدف تشويه سمعة القضاء لترغيب رجالها واخضاعهم للضوابط وفرض الوصاية عليهم وعلي أحكامهم واثارة الخلافات بينهم. الحقيقة الثانية: إن استقلال القضاء في أي نظام سياسي ديمقراطي أو غير ديمقراطي يمثل ركنا اسياسيا من أركان الدولة وجزءا من الضمير الانساني وحقا من حقوق الانسان وذلك لتأمين العدالة وكفالة الحقوق وصون الحرمات والقضاء علي القفز فوق القوانين وحماية المواطن في مواجهة السلطة وان تحقيق الاستغلال انما يدور في محورين: اولهما: ان يكون القضاء سلطة من سلطات الدولة الثلاث وليس وظيفة من وظائفها ويستتبع اسباغ وصف السلطة علي القضاء ان يكون محايدا ومتخصصا. ثانيهما: ان يكون القضاة متحررين من أي تدخل بوعد أو وعيد أو ترهيب أو اشراف أو رقابة غير متأثرين في قضائهم إلا بكلمة القانون العادل والحق. الحقيقة الثالثة: ان اللجوء إلي العدالة العامة وما تتطلبه من إنشاء المحاكم أمر موغل في التاريخ القديم وان القضاء أيا كان نوعه عاديا أو مجلس الدولة لا يتدخل فيما ينشب من أمور وأنزعة إلا بناء علي دعوي تقدم اليه من ذي المصلحة استنادا إلي حق اقره الدستور وهو حق التقاصي المنصوص عليه بالمادة68 منه ووفقا لنص65,64 فإن الدولة القانونية هي التي تتقيد في جميع مظاهر نشاطها بقواعد قانونية وقد نصت المادة68 علي حظر النص في القوانين علي تحصين أي عمل أو قرار إداري من رقابة القضاء. فإذا افتقد أي قرار إداري غايته المشروعة أو جاء مجانبا للمصلحة العامة جاز الطعن عليه امام القضاء باعتباره قرارا باطلا. الحقيقة الرابعة: ان الاعتداء علي سلطة القضاء ورجاله تحت أي شعار لأسباب سياسية أو حزبية أو لبواعث انتقامية أو التدخل في شئون وانتهاك حرماته أو اضعافه هو نذير شؤم علي الأفراد والبلاد كما ان تشويه سمعة القضاء والنيل من رجاله أو احكامه وانتقادها أو الادعاء بأنه يمارس ولاية غير منوطه به أو أية تجاوز لولايته ليس من حق احد أيا كان موقعه وايا كان قدره, فليس لأحد أن ينتزع من القاضي سلطته أو ان يجلس في مقعده والحقيقة التي لا مراء فيها ان ساحة القضاء ليست ميدانا حرا ومفتوحا لتزاحم الآراء وتسابقها إنما للقضاء نظمه الخاصة التي تساندها تقاليد تاريخية و قيم عريقة مستقرة كما الفهم الحقيقي لدور القضاء في أي دولة متحضرة يوصي بضرورة الحفاظ علي استقلاله واحترام أحكامه. وبعد فإن الأمانة التاريخية تقتضي الوقوف مليا عند ما ورد في مقال الدكتور سعيد بعين فاحصة ليس فقط انه من رجال الاعلام وانما ايضا أحد رجال السياسة في مصر. والمتأمل في المقال يشعر بالاندهاش الشديد لماذا هذا القلق وما اسبابه ودواعيه وكيف تصدي له كاتبنا خاصة أننا سنتبين ان سبب الانزعاج هو صدور احكام قضائية في دعاوي اقامها اشخاص من المجتمع وليست بيانات أو منشورات صادرة عن القضاء وتفصيل ذلك ما يلي: أوضح الكاتب ان التجاوزات الشديدة تمثلت في الأحكام المتعلقة بتجديد الحد الأدني للأجر وتحديد اسعار الغاز المصري والسماح للمسيحي بالزواج الثاني وهذه الأمور كما سبق تصدي لها قضاء مجلس الدولة بأحكام قضائية تمثل عنوان الحقيقة. وبالنسبة للحكم الخاص بالحد الأدني للأجور والصادر في القضية2160 لسنة63 ق بوقف تنفيذ القرار السلبي بالامتناع عن وضع الحد الأدني للأجور في المجتمع, فقد صدر هذا الحكم بناء علي قضية رفعها اثنان من عمال مصر واستندت فيه المحكمة إلي نصوص الدستور في المواد32,29,26,23,13 وهي نصوص تتحدث عن العدالة الاجتماعية وعن كون العمل حقا وواجبا وتنادي برفع مستوي المعيشة والقضاء علي البطالة وربط الأجر بالانتاج وإلي المادة السابعة من العهد الدولي. أما عن الحكم الصادر في شأن تصدير الغاز والصادر في2008/11/18 والذي قضت فيه محكمة القضاء الإداري بوقف قرار الحكومة بتصدير الغاز الطبيعي إلي عدة دول من بينها إسرائيل في2010/2/27 قضت المحكمة الإدارية العليا بعدم اختصاص القضاء بنظر الطعن علي قرار الحكومة باعتباره عملا من اعمال السيادة وقررت وقف تنفيذ قرار رئيس مجلس الوزراء ووزير البترول بتصدير الغاز إلي إسرائيل وطالبت المحكمة بمراجعة اسعار التصدير طبقا للأسعار العالمية. ومن ذلك يتضح ان وسيلة التظلم من الحكم هي الطعن عليه أمام المحكمة العليا وليس لغير القضاء النظر في التظلم؟! وبالنسبة للحكم الصادر بالسماح بالزواج الثاني فقد جاء مستندا لنص المادة69 من لائحة الاقباط الأرثوذكس الصادرة1938 وهو في حقيقته طعن علي قرار إداري يخضع لرقابة القضاء ولا يمس المعتقد الديني المسيحي ولا يتصادم مع احد من اصوله كما قرر الكاتب في مقاله المشار اليه. إن العدالة القضائية في أي نظام لا تخضع ولا تتقيد بأمور السياسة أو ما يسمي بالمواءمات السياسية التي يترتب عليها الافتئات علي الحقوق والحريات كما أنها لا تتلون بتلون السياسة وهي صمام أمن المجتمع وسبيل لاستقراره. وان السبيل الوحيد للطعن علي الأحكام هو ما رسمه القانون والتي ليس من بينها الآراء الصحفية أو الفلسفية؟! ويقول الكاتب في مقاله( ان ما حدث خلال الفترة القصيرة الماضية يبعث علي قلق عميق ليس فقط عندما تنتفي الحساسية للأوضاع التاريخية وانما ايضا لاندفاع الاعلام للعبث بقضية لا تنفع معها إلا الحصافة والتروي والمعالجة العاقلة وكان ممكنا تجنبها لو ان السلطة القضائية كانت اكثر تقديرا للواقع السياسي المصري والحقيقة انه منذ جري اعطاء القضاء حق الاشراف علي الانتخابات العامة في عام2000 حتي تم الابقاء الجزئي لذلك عام2007 مع التعديلات الدستورية فإن تسييس القضاء جري بغير توقف ولم يكن ذلك الحق راجعا فقط للسلطة القضائية بل كان راجعا إلي وجود أوضاع مقلوبة اعطت القضاة حق مراقبة الانتخابات وهي من صميم اعمال السلطة التنفيذية في معظم بلاد العالم الديمقراطي؟! ولا ندري ما الذي يقصده كاتبنا العزيز من هذه العبارات من الأوضاع المقلوبة ومن الذي قلبها وكيف عبث الاعلام بهذا الموضوع؟! والصحيح في هذا الأمر أن اشراف القضاة علي الانتخابات انما جاء استجابة لنص دستوري ورد في المادة88 منه والتي نصت علي أن يتم الاقتراع تحت اشراف اعضاء من هيئة قضائية مما يقطع بأن المشرع الدستوري احتفاء بعملية الاقتراع بحسبانها جوهر حق الانتخاب أراد أن يخضعها لاشراف اعضاء من هيئة قضائية لضمان مصداقيتها لغاية الأمر منها باعتبار أن هؤلاء الاقدر علي ممارسة هذا الاشراف بما جبلوا عليه من الحيدة وعدم الخضوع لغير ضمائرهم وهو ما تمرسوا عليه خلال قيامهم بأعباء امانتهم الرفيعة حتي يتمكن الغاضبون من اختيار ممثليهم في مناخ تسوده الطمأنينة علي أنه لكي يؤتي هذا الاشراف اثره فإنه يتعين ان يكون اشرافا فعليا لا صوريا وذلك لضمان ان تكون المجالس النيابية في حقيقتها معبرة عن الإرادة الشعبية ومعبرة تعبيرا صادقا. وغني من البيان ان هذا الاشراف قد غدا خلال الحقبة الأخيرة من تاريخنا مزعوما وصوريا لأسباب متعددة لا يتسع المقام للإسهاب فيها وأضحي القضاء بذلك يتحمل أمام المجتمع أوزارا لابد له منها نتيجة السيطرة الكاملة من جانب السلطة التنفيذية علي العملية الانتخابية ومن هذا المنطلق طالب القضاة بإعفائهم من هذا الاشراف الصوري المزعوم. ويري كاتبنا ضرورة التفكير في البحث عن سبل التعامل مع اوضاع معقدة وهو تفكير يجب أن يأتي من الحزب الوطني؟! وما يدعو اليه سيادته يعيدنا إلي سوابق تاريخية مريرة سبق ان ألمحنا اليها. والواقع ان هذا المقال برمته يكشف عن صراع خفي ومكشوف بين الاعلام والقضاء فليس من حق الصحفي ايا كان موقعه التصدي لما يراه تجاوزا في القضاء وليس لأحد التبرم من أحكام صدرت وتعتبر عنوانا للحقيقة إلا من خلال الوسائل التي نص عليها القانون. ولهذا فإننا نهيب بالمجلس الأعلي للصحافة من منطلق الالتزام بالدستور والقوانين والمصلحة العليا للوطن الكف عن التدخل في شئون القضاء والعدالة فالمصلحة العامة تقتضي تدعيم هذا الصرح الشامخ اقتناعا بشرف رسالة القضاء, ومن هنا يضحي واجبا ايضا علي الشعب ان يدافع عن قضاته من كل عبث أو انتهاك لاستقلاله.