مع مجيء الصيف وبدء الاجازات فإن الإنسان يميل الي الهروب من الواقع والتخفف من أوجاع الحاضر ومشاكله, وفي هذا السياق كنت أقرأ للترويح عن النفس كتابا حديثا عن أبراج باريس الفلكيةTheZodiacofParis, وهو كتاب أمريكي. ويتناول الكتاب مناقشة موضوع قطعة أثرية تتمثل في جزء من سقف معبد دندرة يصور مجموعة من الرسوم أشبه بدائرة الأبراج الفلكية, وقد عمل الفرنسيون بعد الحملة وفي عهد محمد علي وبموافقته علي اقتطاع هذا السقف من المعبد وارساله الي فرنسا حيث يستقر حاليا في متحف اللوفر. ويمثل الشكل المرسوم علي هذا الحجر دائرة مقسمة الي اثني عشر برجا أشبه بما يعرف بالأبراج الفلكية, المشهورة في دراسات الفلك القديمة أو حتي في أدوات التنجيم المعاصرة, وقد استرعي هذا الشكل اهتمام العلماء الفرنسيين به منذ الحملة الفرنسية, ورأي فيه بعضهم ما يؤكد معرفة المصريين القدماء بعلوم الفلك علي نحو متقدم وبما يجعلهم أباء علوم الفلك والهندسة في العالم, ومنهم انتقلت هذه العلوم الي بقية أجزاء المعمورة سواء في الهند أو الصين, ومن المعروف أن الحملة الفرنسية الي مصر قد ضمت عددا من خيرة علماء فرنسا وبعضهم أصبح من معالم الفكر العالمي, وكان عددهم151 عضوا منهم84 من علماء الطبيعة والهندسة, و10 أطباء فضلا عن عدد من الرسامين والفنانين, ولذلك لم يكن غريبا ان يلقي حجر سقف دندرة اهتماما كبيرا من عدد من هؤلاء العلماء المشهورين مثل فورييهFourier ولابلاسLaplace, وقد قامت حول هذا الأثر معارك فكرية حامية حول تحديد تاريخ معرفة المصريين بعلوم الفلك مما طرح علي بساط المناقشة قضايا جوهرية متعلقة بالدين والعلوم من ناحية, وكيفية فهم واستنطاق الآثار القديمة عن طريق العلوم الطبيعية أو الدراسات اللغوية والتاريخية من ناحية أخري. وجاء توقيت وصول هذا الحجر الي فرنسا عنصرا مؤثرا في الجدل الفكري والفلسفي السائد في فرنسا والذي استمر منذ قيام الثورة الفرنسية وحتي عودة الملكية من جديد بعد هزيمة نابليون في ووترلو1815, وكان أحد الكتاب ديبويDupuis قد نشر كتابا بعد قيام الثورة عن أصل العقائد يري فيه ان العقائد الدينية قد ولدت مع المجتمعات الزراعية حين أرادت أن تحدد مواعيد البذر والحصاد, وأنها كانت تعتمد بصفة خاصة علي الظروف المناخية للأمطار أو الفيضانات, واستخدمت في ذلك المشاهدات الفلكية, وكان ديبوي يعتقد أن بداية المعرفة بعلوم الفلك علي هذا النحو بدأت منذ أكثر من اثني عشر ألف سنة قبل الميلاد, وقد أثار هذا الكتاب في حينه جدلا كبيرا خاصة من رجال الدين الذين وجدوا فيه ما يتعارض مع ما ورد في التوراة عن تاريخ البشرية منذ آدم والذي لا يتجاوز أربعة آلاف سنة قبل الميلاد, وهكذا كان ذلك الكتاب مثيرا لزوبعة فكرية بين أنصار الكنيسة وبين عدد كبير من أنصار الثورة الفرنسية من المعارضين للكنسية. وجاء وصول حجر دندرة الي فرنسا1821 مشعلا لهذا الجدل من جديد, فالحجر يتضمن رسومات تفيد بأن المصريين, قد عرفوا علم الفلك منذ القدم, وبدأ عدد من العلماء الذين شاركوا في الحملة الفرنسية خاصة فوريية وغيرهم في محاولة لتحديد تاريخ معرفة المصريين بهذه المعلومات الفلكية بناء علي دراسة دائرة الأبراج الفلكية كما ظهرت علي الحجر وذلك وفقا لقواعد علم الفلك وعلاقاتها بفيضان النيل, وقد رأي فوريية أنه وبصرف النظر عن تاريخ بناء معبد دندرة, فإن معرفة علاقة النجوم في هذه الأبراج لابد وأنها ترجع الي مايقرب2500 قبل الميلاد, وأنها بلغت قمة نضجها في هذا التاريخ, مما يعني أنها لابد أنها استندت الي قرون سابقة من البحث والمعرفة البدائية, وهكذا ضم فوريية صوته بشكل أو بأخر الي القائلين بأن العلم الفلك بوجه خاص يقطع بوجود البشرية في وقت سابق علي ما ذكر في التوراة. وقد أدي هذا الرأي الي قيام تيار قوي معارض من رجال الكنيسة كما من عدد من العلماء المحافظين, وازداد هذا التيار عنفا بعد هزيمة نابليون وعودة الملكية, وهكذا عرفت فرنسا معركة فكرية حامية تدور كلها حول الحجر المصري ودائرة الأبراج الفلكية كما كان محورا للصراع القائم بين الاتجاهات المحافظة وبين الآراء الثورية الجديدة, ولكن الأمر لم يقتصر علي المناقشات الدائرة بين أصحاب المذاهب الايديولوجية المختلفة, أو بين علماء الفلك فيما بينهم خاصة في الاكاديمية العلمية, بل أصبح هذا الموضوع في نفس الوقت هو حديث الساعة في المنتديات الاجتماعية والأحاديث اليومية, فيكفي ان يلتقي أحد الفرنسيين مع أحد زملائه حتي يبدأ الحديث, مارأيك في حجر دندرة, هل تعتقد فعلا أن المصريين القدماء قد عرفوا علوم الفلك منذ آلاف السنين؟ بل أصبح هذا الموضوع أيضا عنوانا للنشاط المسرحي, فعرضت إحدي الفرق مسرحية بعنوان الأبراج الفلكيةLeZodiaquedeParis, كما مالت الأذواق لتقليد الفن المصري في الملابس والأثاث المنزلي, وتعددت الأسماء المصرية للميادين والشوارع, بل لم يقتصر الأمر علي المفكرين والعامة من الناس, حيث ان ملوك فرنسا كانوا أيضا متابعين لهذا الموضوع, فعندما انتقل حجر دندرة من مصر الي فرنسا بواسطة أحد التجار الفرنسيين سولنيه الذي كان يسعي لتحقيق كسب مادي من وراء هذه الصفقة مما دفعه الي تشجيع الملك لويس الثامن عشر علي دفع نصف ثمن الحجر وتدفع الحكومة الفرنسية النصف الآخر, ولم يكن الملك وحاشيته بعيدين عن الصراع الفكري الدائر حول دلالة دائرة الأبراج الفلكية وبما يدعم الاتجاهات المحافظة السائدة بين بعض العلماء, وإذا كان الملك لويس الثامن عشر قد اهتم بالموضوع, فإن اهتمام نابليون بالموضوع قبل ذلك لم يكن أقل, وقد جعل نابليون من هزيمته العسكرية في مصر انتصارا حضاريا حققته الثورة الفرنسية للبشرية, فقد كان من أهم نتائجها صدور مؤلف وصف مصر, الذي يتضمن تعريفا بجميع نواحي الحياة في مصر, وقد حققت الحملة باصدارها لهذا الكتاب بعد اقامة لم تجاوز ثلاث سنوات مالم يتحقق علميا في مائة عام سابقة أو لاحقة. وعندما كشف شامبليون أسرار اللغة الهيروغليفية, فإنه لم يكن بعيدا هو الآخر عن الاهتمام بتفسير دلالة سقف معبد دندرة, ولكنه اختلف مع علماء الفلك الذين ركزوا علي التفسير الفلكي العلمي دون ملاحظة الجوانب اللغوية المصاحبة للحجر, وقد رأي شامبليون في الحجر جزءا من التقاليد الدينية السائدة في مصر آنذاك أكثر منه عملا علميا فلكيا بحتا. وليس الهدف من هذا المقال استعراض تفاصيل قصة حجر دندرة والرسوم عن الأبراج الفلكية أو دلالاتها العلمية, بقدر ما هو تذكير بمدي اهتمام العالم بالتاريخ المصري القديم وما يثيره من اعجاب وأحيانا انبهار في النفوس, ولذلك فإن القول بأن هناك لدي العالم نوعا من الهوس بالحضارة المصرية القديمةEgyptomania ليس مبالغة, وليس أدل علي ذلك من ظهور هذا الكتاب الآن لكي يحكي هذه القصة وتنشره إحدي أهم الجامعات الأمريكية( برنستون), وحيث اعتبر أحد أكثر الكتب مبيعا. إن لمصر القديمة مكانا خاصا في قلوب العالم, ويظل السؤال, إذا كان هذا هو الاهتمام بمصر القديمة, فماذا حدث لمصر الحديثة؟ سؤال مؤلم, والاجابة أشد إيلاما, وكل إجازة وأنتم بخير, والله أعلم. المزيد من مقالات د.حازم الببلاوي