جمهور عريض في منطقتنا العربية من السياسيين والعامة مازالوا يحلمون بعودة الحرب الباردة وظهور منافس قوي للقطب الأمريكي. وعادة ما يدور الرهان حول روسيا كبديل للاتحاد السوفييتي السابق. أو الصين مع سطوع نجمها الاقتصادي والعسكري في شرق آسيا وفي مناطق أخري من العالم. وبرغم وجود علاقات إستراتيجية بين مصر وأمريكا, فإن مصر تري في علاقاتها مع روسيا والصين مصدرا مهما لحرية حركتها الأمنية والاقتصادية, وتراقب باهتمام علاقات الدولتين بالصديق الأمريكي. وخلال السنوات الماضية, وفي خضم حربي العراق وأفغانستان, برز التحدي الروسي بدرجة ملحوظة ضد تمدد النفوذ الأمريكي في شرق أوروبا وانضمام كثير من دولها إلي الاتحاد الأوروبي وحلف الناتو. وقد وصل الاحتكاك في بعض المواجهات كما حدث في حالة جورجيا إلي مستوي خطير, لولا عودة العقل إلي الطرفين, ومراجعة النفس, وأحيل الصدام المباشر إلي أطراف محلية تدين بالولاء لهذا الطرف أو ذاك. وكذلك ما حدث عندما أصرت الولاياتالمتحدة في عهد الرئيس بوش علي نشر صواريخ دفاعية مضادة للصواريخ ومحطات رادار في بولندا وجمهورية التشيك بالقرب من الحدود الروسية, ولجوء إدارة أوباما بعد وصوله للبيت الأبيض إلي حلول لهذه المعضلة تتميز بالمرونة, وخالية من عناصر الاستفزاز لروسيا, مع العمل دبلوماسيا إلي جذبها للمشاركة الفعالة من أجل استقرار أوروبا والعالم. لكن جاءت الرياح بما لا تشتهي السفن, وتفجرت قضية تجسس روسية في الولاياتالمتحدة لم تكن في الحسبان, وأصيبت العلاقات الروسية-الأمريكية بجراح سوف تحتاج إلي بعض الوقت حتي تلتئم. ولحسن الحظ سارعت القيادتان في موسكووواشنطن إلي محاصرة الضرر ومعالجة النتائج المترتبة عليه, أملا في يكون ما حدث آخر قصص التجسس الكبري بين البلدين. هناك من يعتقد أن أنشطة التجسس وأعمال المخابرات لا تزدهر إلا إبان الحروب, أو من أجل الاستعداد لها, لكن الواقع يقول إنها عملية مستمرة في فترات السلم والحرب, كما أنها تمارس ضد الأعداء والأصدقاء علي السواء. وبرغم أن الحرب الباردة كانت تتسم بتجنب التورط في حروب ساخنة خوفا من تحولها إلي صدام نووي واسع بين القوي العالمية الكبري وعلي رأسها الولاياتالمتحدة والاتحاد السوفييتي, فإن أنشطة التجسس بين القوي العظمي كانت في أعلي درجاتها حتي لا تؤخذ الدولة علي غرة, كما أن الحفاظ علي الاستعداد العسكري النووي والتقليدي كان مقدسا في كل الأوقات; مع حرص دائم علي النفاذ إلي المعلومات الحساسة والنوايا الخفية, والتعرف عن قرب علي خطط العدو وقدراته العسكرية الحالية والمستقبلية. ومن المعروف أن الحروب الأمريكية لم تتوقف منذ نشأة الدولة, وبقدر الانتصارات في الحربين العالميتين الأولي والثانية واجهت أمريكا كثيرا من النكسات العسكرية بسبب نقص المعلومات أو الفشل في تحليلها أو الاثنين معا. وهذا ما حدث في' بيرل هاربر', وفي'11 سبتمبر', فقد كان الفشل في تبادل المعلومات في الأولي وراء فقدان الأسطول الأمريكي في المحيط الهادي تحت وطأة الهجوم الياباني المفاجئ, وفي الثانية كان ضعف التنسيق بين إدارات المخابرات المختلفة وضحالة الخيال وراء الكارثة الكبري. وعلي العكس من ذلك تماما نجحت الولاياتالمتحدة في إخفاء' مشروع مانهاتن' السري الذي أدي في النهاية إلي بناء أول قنبلة نووية في تاريخ البشرية واختبارها عمليا فوق مدينتي هيروشيما ونجازاكي الأمر الذي أدي إلي استسلام اليابان في النهاية. إعلان واشنطن مؤخرا عن فضيحة اكتشاف' شبكة تجسس روسية' في الولاياتالمتحدة جاء في توقيت بالغ الحرج مواكبا لعودة الرئيس الروسي ديمتري ميدفيديف من زيارته للولايات المتحدة وسط أحلام وردية عن تحسن في العلاقات بين موسكووواشنطن, ورغبة في تصديق الكونجرس الأمريكي علي معاهدة الحد من الأسلحة الإستراتيجية ستارت-.2 اتسم رد الفعل الروسي بالارتباك بعد تفجر الفضيحة, وتراوح بين التريث في الإعلان عن موقف الدولة الروسية الرسمي وبين اتهام الولاياتالمتحدة بصناعة قصة بوليسية رخيصة الثمن من تأليف بعض قوي الداخل الأمريكي رغبة منهم في إعادة أجواء الحرب الباردة. لكن ذلك لم يمنع موسكو في النهاية من الاعتراف بأن بعض المتهمين في هذه القضية مواطنون روس, وأن القائمة تضم11 شخصا يعملون معا. وسرعان ما تبدت ملامح صفقة سارع الجانب الروسي بالإعلان عنها حيث بادر بالإفراج عن بعض المتهمين في السجون الروسية بتهمة التخابر لصالح الولاياتالمتحدة ونقل معلومات نووية إليها, ويبدو أن التجسس المستمر كان تقليدا معروفا بين الدولتين حتي بعد انتهاء الحرب الباردة. وحتي الآن يبدو ما قيل عن حادثة التجسس متضاربا, كما أن المعلومات السرية التي يتحدث عنها البعض تبقي الباب مفتوحا أمام مختلف التأويلات والتصورات خاصة أن المشتبه فيهم ليسوا من رجال السياسة أو الدبلوماسية أو الأمن, وأن ما حصلوا عليه من معلومات لا يؤثر في مجمله علي الأمن القومي الأمريكي, لا سيما أن أحدا لم يعلن بعد عن تفاصيل الاتهامات الموجهة إليهم. ويري البعض أن المسألة تبدو أبعد ما يكون عن التجسس, وتتلخص ربما في عمليات غسيل أموال لصالح شخصيات تعمل في الحكومة والمخابرات الروسية. وهناك من يري أن فضيحة التجسس كان الهدف منها المساس بمكانة ميدفيديف لصالح بوتين, حيث يري البعض أن الأول قد وقع أسيرا للرغبات والتوجهات الأمريكية وحملات الضغط علي إيران. وبصرف النظر عن الفرقعة التي أصابت الدولتين الكبيرتين إلا أن التجسس يعتبر مسألة طبيعية سوف تستمر وتتواصل بينهما في كل الظروف. ويبدوا واضحا من وجهة نظر وزير الخارجية الروسي أن توقيت الإعلان عن هذه الفضيحة اختير بعناية ودقة, وأن هناك من أراد استهداف الزعيمين ميدفيديف وأوباما وخططهم المستقبلية المشتركة. ومن غير الطبيعي أن تعلن وزارة العدل الأمريكية عن القضية في أعقاب مباحثات ميدفيديف مع أوباما وقبيل بدء التصديق علي معاهدة الحد من الأسلحة الإستراتيجية' ستارت-2' في الكونجرس الأمريكي برغم أنهم يتابعونها منذ ما يقرب من عشر سنوات. كما يري كثير من المتخصصين في العلاقات الدولية أن أوباما نجح في استمالة الكريملين إلي فرض عقوبات علي إيران, وأقنع الرئيس الروسي بدفع ملايين الدولارات لشراء طائرات بوينج أمريكية, ومع ذلك لم يبادر أوباما بالاتصال بنظيره الروسي ميدفيديف لاحتواء القضية وتسوية المشكلة قبل أن يفقدوا السيطرة عليها. ويبدوا أن التجسس المتبادل بين الدولتين كان شيئا عاديا ومستمرا برغم انتهاء الحرب الباردة, وقد كانت موسكو أكثر مرونة في بعض الأحيان عندما اعتقلت جاسوسا أمريكيا بتهمة جمع معلومات عن الصواريخ الروسية, لكن فلاديمير بوتين عندما كان رئيسا لروسيا أبدي قدر كبيرا من التسامح وقام بتسليمه للولايات المتحدة. وفي النهاية, ووسط أجواء لم يعشها العالم منذ سنوات الحرب الباردة, أجرت الولاياتالمتحدةوروسيا مؤخرا أضخم عملية تبادل للجواسيس بينهما, شملت10 أشخاص اعتقلوا في الولاياتالمتحدة بتهمة التجسس لصالح روسيا, في مقابل4 أمريكيين كانوا يقضون أحكاما بالسجن في روسيا بنفس التهمة لصالح الغرب. وبذلك يغلق البلدان ملفا هدد بنسف جهود الرئيسين باراك أوباما وديمتري ميدفيديف من أجل بناء شراكة إستراتيجية متينة بين الدولتين. وقد علق مسئول روسي علي ما حدث قائلا أن ما جعل تبادل الجواسيس ممكنا بين الدولتين الروح الجديدة التي طبعت العلاقات الروسية-الأمريكية, والمستوي العالي من التفاهم والثقة بين رئيسي البلدين. وبرغم كل الضوضاء التي أثارتها قضية التجسس علي الولاياتالمتحدة, حرص الرئيس ميدفيديف علي أن يرسل تهنئة بمناسبة العيد القومي الأمريكي إلي الرئيس أوباما متمنيا استمرار تطور العلاقات الروسية-الأمريكية, وتعزيز الاستقرار الإستراتيجي بينهما, من أجل دعم المصالح المشتركة بين الدولتين, والحفاظ علي الأمن والاستقرار العالمي.