حين ندعو لقريب أو صديق, فإننا نطلب له طول العمر, وطول البقاء, وقد أصبحت هذه الدعوة الآن حقيقة واضحة, فقد طالت الأعمار, وذلك بفضل التقدم الكبير في الطب والعلاج. وبقدر ما هذا الطول من فائدة, فإنه أيضا أثار مشكلات جديدة علي الإنسانية, وأكبر هذه المشكلات وجود الكثير من أصحاب السن المتقدمة الذين أكبر منا من أن يعملوا, وأصغر منا من أن يتقاعدوا. لا أعرف متي بدأ تحديد سن التقاعد من العمل, ففي الماضي كان الشخص يستمر فيما يقوم به من عمل حتي لا يستطيع الاستمرار, وهناك حتي الآن نموذج لذلك وهو الفلاح المصري الذي لاتيعرف له سن للتقاعد, لكنه يتوقف عن العمل في حقله حين لا يستطيع جسده تحمل العمل. وقد تحدد سن التقاعد في معظم دول العالم, إن لم تكن كلها, بسن الستين, ثم أضيفت خمسة أعوام أخري علي بعض الأعمال لتصل إلي65 عاما, ولكن هل سن الستين أو الخامسة والستين هي سن لا يستطيع فيها الفرد أن يداوم عمله؟ لقد أصبح البعض يري هذه السن علي أنها بدء الفترة الشبابية الثانية, مما هو الستين أو الخامسة والستين حين أصبح الإنسان يعيش إلي سن الثمانين أو التسعين, ويكون متمتعا بكل قواه العقلية والجسدية, بل إن البعض يعيش الآن إلي سن المائة, وتقول الإحصاءات الأخيرة إنه في عام2060 سيكون في بريطانيا نحو400 ألف شخص في سن المائة, ولا أعرف مدي هذه النسبة في مصر مثلا. وفي مقال قرأته أخيرا في الإندبندنت اللندنية يذكر الكاتب إحدي المشكلات التي تواجه الحكومة البريطانية والقطاع الخاص بسبب طول العمر الآن, والمشكلة هي استمرار دفع المعاشات أو التأمينات لسنوات أطول من ذي قبل, كما أن طول العمر سيؤدي إلي استمرار العامل في العمل لسنوات أطول, ويقول الكاتب: إن هناك اتجاها الآن إلي عدم قبول التقاعد, ويذكر ما قاله أرنست همنجواي: إن كلمة التقاعد هي أسوأ كلمة في اللغة, ولعله لذلك انتحر وهو في الحادية والستين من عمره. وهناك الكثير ممن يصلون إلي سن التقاعد الذين يبحثون عن عمل ما, والمشكلة هنا أنه إذا استمر شخص في عمل ما لمدة ثلاثين أو أربعين عاما سيجد من الصعب أن يقوم بعمل آخر, خاصة أن معظم نواحي العمل بها عمالة زائدة تريد التخلص منها, لا أن تضيف إليها, ولاشك في أن بعض الأعمال لا تستطيع أن تقبل كبار السن, فعلي سبيل المثال لا يمكن أن نثق في السفر علي طائرة قائدها له شعر أبيض يعاونونه علي الوصول إلي مقعد القيادة, أو أن تضع نفسك أو عزيزا لديك في أيدي جراح لا يستطيع أن يسيطر علي حركة يديه.وهناك اتجاه الآن في عدد من الدول النامية, وفي مصر أخيرا, فيما يسمي المعاش المبكر الذي يأتي عادة في منتصف الخمسينيات من العمر, وقد استفاد البعض من هذا المعاش بعد أن تلقي مكافأة نهاية الخدمة, فماذا فعل بهذه المكافأة؟ إني أعرف أشخاصا اختاروا المعاش المبكر وتلقوا مبلغا محترما استغلوه في ملذاتهم وأسفارهم, ولم يحاول أحدهم بدء عمل جديد, وهنا تأتي فكرة الهواية, إن كان لأحد ما هواية فإن هذه الهواية سيكون لها دور كبير بعد التقاعد. وأذكر هنا قصة قرأتها عن رجل أعمال إنجليزي قرر أن يتقاعد في سن الخامسة والخمسين, فترك عمله وانتقل إلي الريف حيث اشتري منزلا ريفيا كبيرا وكانت هوايته النجارة, فبدأ في ممارسة تلك الهواية وصنع بعض المقاعد والمناضد, وسرعان ما حول هوايته إلي عمل وأصبح من كبار صناع الأثاث. وأذكر صديقا إنجليزيا عرفته في أثناء إقامتي الطويلة في لندن, قرر أيضا التقاعد المبكر وكان من هواة الزهور, وكانت حديقة منزله في اسكس حيث سكنت لفترة ما, نموذجا لحدائق الزهور, وبعد أن تقاعد بدأ هوايته وأصبح الآن من أكبر بائعي الزهور لا في انجلترا فحسب, بل في بعض الدول الأوروبية. وبرغم مشكلات التقاعد هذه فإن البعض يراها ميزة ودافعا للحياة, ومعظم هؤلاء من الذين قاموا بأعمال شاقة لمدة طويلة ويرغبون في الاستمتاع بالهدوء والراحة, لكن معظم هؤلاء عادة من الأغنياء الذين ينسحبون إلي ضياعهم وأراضيهم ويعيشون حياة العمودية, يستمتعون بهواء الريف النقي, والحياة الهادئة بدون ضجيج المدينة. لكن مما لاشك فيه أن التقاعد المبكر يوجد تلك المشكلات لمن هم أكبر عمرا من العمل, وأصغر عمرا من التقاعد, وعندي مثال في صديق كان طيارا مدنيا, وكما نعرف أن هناك سنا لتقاعد الطيارين, ووجد صديقي نفسه وهو في أواخر الخمسينيات من عمره متقاعدا بينما به من القوة ما يجعله يستطيع أن يعمل ويعمل, لكن تخصصه هو الطيران ومن الصعب في سنه هذه أن يبدأ عملا لم يقم به من قبل. وبرغم ندرة أو انعدام الأعمال لكبار السن فإن هناك وظيفة أكيدة في انتظار توليهم لها, وهي وظيفة الجد أو الجدة, لقد أصبح هناك عمل دائما لهم في رعاية أحفادهم, خاصة الآن حين نجد أن معظم الآباء والأمهات يعملون طوال اليوم وليس في قدرتهم توظيف مربية دائمة. إن هذه وظيفة وقف علي الجدود الذين يجدون فيها, كما وجدت أنا عشرة وراحة وحبا لا نهاية له. قالت لي حفيدتي منة الله: إن هناك هدهدا يقف عند نافذة الحجرة التي تجلس فيها دائما وينظر إليها, ويضرب بمنقاره زجاج النافذة وكأنه يرسلها رسالة بالمودة, وقالت: إن له الآن سنتين لم يغير فيهما مكانه, ولا يأتي إلا إلي نافذة الحجرة التي تجلس فيها, وقالت لي منة: إنها لا تخاف من هذا الهدهد بتاجه الجميل, بل تشعر نحوه بحب غريب, وأنه أصبح خلال السنتين جزءا من حياتها اليومية, وسألتني منة: ما معني ذلك؟ وهل لوجود الهدهد معني؟ لم أعرف ماذا أقول لها, لكن في الوقت نفسه تذكرت أننا في شبابنا كنا نعتقد أن الذبابة الزرقاء التي كانت تطن في حجرتنا هي روح شخص مقرب لنا, وأنها جاءت لترعانا, كنا لا نقترب من الذبابة الزرقاء بعكس ما كنا نفعل مع الذباب العادي, وكنا حين نراها, وكانت تأتي بصفة دائمة, نحاول أن نفكر روح من هي! فقلت لمنة: هذا الهدهد هو روح شخص يحبك ويرعاك, قد يكون والدك حمدي الذي لم يحضر زفافك, أو جدتك عنونة التي غادرتنا منذ سنتين ونصف سنة, لذلك يجب ألا تخاف, فالهدهد روح ترعاها وتحبها, وتريد أن تحميها, لكن ما حدث لمنة جعلني أرجع إلي بعض الكتب التي تتحدث عن تناسخ الأرواح, وهذه نظرية علمية تناولها العديد من البحوث العلمية حول ما يحدث للروح بعد الموت.لا أريد أن أدخل هنا في مناقشات لا قدرة لي ولا طاقة لي بها, وإنما سأعرض بعض الآراء التي جاءت في بعض الأديان, خاصة الديانتين الهندية والبوذية, أن تناسخ الأرواح هو جزء من دين وفلسفة, وتعني إعادة ولادة الروح في صور مختلفة قد تكون بشرية أو حيوانية, أو في بعض الأحيان طيور,ا ونجد هذه الفلسفة أيضا في بعض الأساطير الإغريقية, وكان أفلاطون يعتقد أن الروح تبحث عن مكان راحة جديد, سواء في جسم إنسان أو حيوان. وتري الديانات الشرقية, خاصة الهندية والبوذية, أن قانون السببية يعني أن ما يفعله الفرد الآن في حياته الحالية لها تأثير علي حياته القادمة, وفي الفلسفة الهندية فإن الولادة وإعادة الولادة عملية مستمرة لا نهاية لها حتي يصل الإنسان مرحلة الخلاص حين يعرف الحقيقة التي تحرر الروح, وتري هذه الفلسفة أن الروح تترك الجسم عن طريق الفم والأنف, ثم تعاد ولادتها في صورة طائر أو فراشة أو حشرة, وتري فلسفة الفنداVenda في جنوب إفريقيا أنه حين يموت الإنسان فإن روحه تبقي بجوار قبره لفترة من الزمن ثم تبدأ بعد ذلك في البحث عن مكان للراحة, سواء في جسد آخر بشري أو حيواني. ومناقشة تناسخ الأرواح ليست وقفا علي الأديان والفلسفة الشرقية, فهناك بحوث عديدة قام بها علماء غربيون عن هذه الظاهرة, وهناك آراء متضاربة ليس هذا مجال مناقشتها, لكن سواء كانت هناك فعلا عملية تناسخ للأرواح, أم لا, فلاشك في أن الإحساس بأن هناك شخصا, حتي ولو كان في صورة هدهد أو ذبابة زرقاء ينظر إليك, إن هذا الإحساس يجعلك تشعر أنه برغم الفراق وآلامه فإن هناك تواصلا مع من نحبهم ونفتقدهم.