كل افراد عائلة العكايشة ناهيك عن أهل بلدتنا جميعا يحبون صادق ابن عمي ويأنسون إليه. وإذا مر علي جماعة فوق مصطبة وقال: سلام عليكم, قوبل بحفاوة لا تقل عن الحفاوة التي يحظي بها أي واحد من علية القوم, ليس فحسب لأنه يحمل اسم عائلة كبيرة ذات تاريخ طويل من العزة والجدعنة, بل لأنه هو نفسه شخصية جاذبة حتي وإن كان رث الثياب غير حليق. ولسوف يقدمون له واجب الضيافة من زردة الشاي التي لا تتوقف عادة في مثل هذه القعدات العائلية. ولسوف يستدرجونه في الحديث بصنعة لطافة ليتوهج ويحكي, يحكي أي شيء, فأي شيء يحكيه سيكون مسليا ومفيدا, قد يتضمن وصفات من أصناف العطارة لعلاج الكحة ووجع الظهر وآلام المفاصل والبول المتعثر ولتقوية المياه وطرد السم من الجسد.. إلخ.. إلا الحاجة فاطمة زوجة عمه محمود لم تكن تأنس إليه وإن أظهرت خلاف ذلك. وأصغر أبناء العكايشة بل كبارهم يعرفون أنها تخفي امتعاضا من وجوده في الداروربما في البلدة كلها. ذلك أنه قد بات ينافسها عن جدارة في تقديم وصفات العلاج بالأعشاب والنباتات, دون أن يطلب أجرا, بل دون أن يرغمك علي شراء العطارة منه. فإن شربتها منه أعطاك القدر المطلوب للعلاج فحسب, وقد يتردد في طلب ثمن البضاعة, فإن اعطيته له دسه في جيبه دون أن ينظر فيه. وفي معظم الأحيان يرد يدك عن جيبك قائلا إن الشيء الذي أعطاه لك لا يساوي ثمنا. والحاجة فاطمة لم تكن تقدم وصفات بل تقوم بتصنيع الوصفة بنفسها إن كانت خلط أشياء بأشياء أو تذويب أشياء في كوب ماء أو غلي شيء علي النار حتي يحدث له كذا وكيت.. إلخ ثم إنها لا تأتي بسيرة أصناف العطارة التي تصنع منها الدواء, يكفيها أن تقول للمريض: هذا دواؤك فخذ منه رشفة علي ريق النوم أو بعد الأكل أو قبله, أو تدعك الجزء الموجوع من جسدك بمرهم أو زيت ومثلما يستسلم الرضيع لأمه كي تعطيه اللحوس في سقف حنكه أو اللبوس في فتحة شرجه, يستسلم لها المريض فتعطيه الحقنة الشرجية دون أن يعرف إن كانت محلول صابون أو زيت خروع. أما صادق فيعطي الوصفة بمكوناتها ويشرح لك باستفاضة كيف تحولها إلي دواء وكيف ومتي تتناوله. وصفاته كانت دائما غريبة ولا تخطر علي بال أحد. بواحدة من هذه الوصفات الغريبة العجيبة استطاع أن يكسر أنف الحاجة فاطمة فشهد لصالحه علي مرأي ومسمع من الدار كلها. فقد أصيب ابنها عبداللطيف وهو الأثير عندها دون إخوته مع أنهم جميعا رجال أشداء وشجعان بوعكة صحية أرقدته الفراش ثلاثة أيام حتي انزعج جميع من في الدار لأن عبداللطيف هو محور دولاب العمل في فلاحة الأرض. كان قد صار عاجزا عن التقاط النفس إلا بصعوبة, وصدره يزيق مثل مفصلات باب صدئه, ويكح كحة خشنة تكلفة عناء شديدا. عندئذ توترت الدار بسبب عناد الحاجة فاطمة التي قدمت كل مالديها من خبرات في دعك صدر ابنها بالزيت ووضع جرنان تحت الفانلة وكلفتته بالحزام الصوف, فضلا عن أخذ كاسات الهواء, وكان صادق يراقب كل ذلك ويبتسم في شعور بالمرارة تارة وبالاستهانة تارة أخري. كان من الواضح أنه يقمع رغبته في الكلام وفي التدخل في الأمر من أساسه تحسبا لعناد الحاجة فاطمة التي رفضت رفضا قاطعا استدعاء حلاق الصحة الذي تعتبره تلميذا بالنسبة لها. إلا أن أبي حفزه علي التدخل وقال له بما يشبه الأمر الحاسم: سيبك من مرات عمك يا صادق وشوف تقدر تعمل إيه لابن عمك عشان يقوم. وكأنه كان في انتظار هذا الأمر, قام في الحال يشرح الأمر لأبيه قائلا إن الجوزة التي يشربها عبداللطيف ليل نهار قد رصفت صدره بالقطران فصارت رئته مثل أسفلت الطريق, وقد تعرض لنزلة برد شديدة جعلت القطران يجف ويتصلب, وأن أول شئ نفعله الآن هو تزويده بأكواب من الليمون المغلي, والينسون والكراوية والتليو. ولما كان أبي هو الوحيد الذي لا تراجعه الحاجة فاطمة باعتباره كبير الدار حتي وإن كان أصغر منها سنا, فقد انتقل إلي قاعة عبداللطيف وأشعل وابور الجاز وراح يجهز كل هذه المشروبات تباعا وأخذ يسقيها لعبداللطيف حتي بدأت صفائح القطران تتشقق وكان صوتها أشبه بصوت من الكريك وهو يغوص في أرض صلبة ثم جيء بصفيحة سمن فارغة قديمة وضعت أسفل السرير لتتلقي بصاقا أسود علي أزرق مثل فتافيت من جبال من البلغم لاتنتهي عندئذ راق صدره بعض الشيء ورجع لون الدم إلي خديه. قال أبي: ليتنا فعلنا ذلك من الأول. وقال صادق: لكأننا الأن قمنا بتطهير مصرف! وفي الليل سأعطيه العلاج الناجع. قال أبي: ما العلاج؟ قال: سوف تري وحينما جاء الليل كانوا جميعا في شغف لرؤية هذا العلاج. فإذا بصادق يعطي عبد اللطيف حفنة صغيرة من الحلبة الحصي قال له: سفها! ابلعها دون مضغ. وأعطاه ملء ملعقة من الماء يستعين بها علي الإبتلاع قال عبد اللطيف: لقد انحشرت الحلبة في حلقي. قال صادق: هذا هو المطلوب, لا نريد أن تنزل الحلبة إلي أمعائك! نريدها أن تبقي في الحلق وفوق الرئة! قال عبد اللطيف: وما الحكمة؟ قال صادق: ستنام أنت بعمق: وفي صباح الغد ستكون الحلبة الحصي قد استقرت مكانها وزرعت ومددت خيوطها فتمتص الرطوبة وكافة السموم وتفتك بها! ويتحلل القطران شوحت الحاجة فاطمة بيدها ساخرة في استهجان, وتبسم أبي كأنه يتواطأ مع استهجان الحاجة فاطمة وانزوت بسمة عبد اللطيف في ركن فمه ساخرا من نفسه علي استسلامه لهذه الجنونيات لكنهم جميعا في ضحي اليوم التالي صفقوا كفا علي كف من الدهشة المذهلة حينما رأوا عبد اللطيف ينهض ليشحم ويرتدي ثيابه ثم يجلس علي المصطبة أمام الدار يتعجل تسوية الغذاء وقد أصر علي أن يقاسمه صادق دكر البط الذي قدمته إليه زوجه عند الغذاء. العطارون في ذلك الزمان هم ورثة الحكماء القدامي وكان لايزال هناك بعض شيوخ من العطارين في مختلف المدن صامدين أمام تحدي الطب العلمي الحديث لهم كان الواحد منهم بمثابة طبيب وصيدلي معا, يستمع إلي شكوي المريض ويسأله عن مصادر الألم فيه, ثم يسأله بعض أسئلة استفهامية: هل تشعر بكذا عند النوم؟ عند الأكل؟ عند التبول؟ هل تقوم من النوم شاعرا بكذا؟ وهل تشعر بمغص؟ بغثيان؟ بنشر في المفاصل والساقين. وبناء علي ما يتلقاه من إجابات وبشيء من النظر في العينين وفي الوجه يصنع له تركيبة دوائية من أصناف العطارة المتوافرة في محله الكبير. العطار الذي عمل معه صادق في شبابه كان واحدا من أولئك الحكماء بالوراثة ومنه تعلم صادق معظم الأوصاف والتركيبات الدوائية مرتبطة بالكثير من الأمراض الشائعة بين عموم الشعب المصري. ومن بين الحالات التي احتفظت بها ذاكرته حالة فلاح كان هزيل البدن شاحب الوجه مع أنه لايكف عن الأكل ليل نهار لدرجة أنه يصحو من عز النوم ليأكل لقمة يستأنف بعدها النوم. ولكن جسده لايستفيد مطلقا من هذا الطعام المتواصل وبعد الفحص والاستفهام أخبرت الحكيم أن في بطنه ديدانا متوحشة تلتهم طعامه أولا بأول فكأنه لايأكل. وقدم له الدواء الذي شارك صادق في إعداده, كان عبارة عن حنظلة في حجم برتقالة والحنظل شديد المرارة, تم عصرها وغلي العصير علي السبرتاية وتعبأته في زجاجة بعد تصفيته بقماشة من الشاش الأبيض تحتجز التفل والشوائب والبذور, ويتعين علي المريض أن يشرب منها جرعات علي ريق النوم, وأن يتبرز في قصرية ليري ما إذا كان البراز طبيعيا أم فيه اختلاف! في اليوم الثاني جاء الرجل حاملا علبة من الصفيح ملآنة عن آخرها بديدان طويلة كبيرة من خيوط تخينة ؟ وتداخلت رءوسها في أذيالها. وذات يوم.. وكان قد جاوز الخمسين من عمره شعر صادق بنفس الأعراض التي عاني منها ذلك الرجل. كان يأكل في اليوم عشرين مرة ولكن جسده مع ذلك يزداد هزالا ويفقد العزم والحيوية فلم يتردد, اشتري الحنظلة, سلمها لواحدة من فتيات الدار وشرح لها كيفية عصرها وغليها وتصفيتها و.. هل كانت الحنظلة معطوبة؟ هل الوعاء الذي عصرت وغليت فيه كان ملوثا؟ هل القماشة المصفاة لم تكن نظيفة؟ الله أعلم, ولكن صادق ما إن تجرعها علي ريق النوم حتي كركبت بطنه وانتفخت وصارت كالطبلة المشدودة الجلد, وراحت تصبح بصخب هائل من الأصوات القبيحة ارتمي علي الأرض يتلوي من الألم زوجة عمه الحاجة فاطمة هرولت إلي دولا بها تعكرش فيه بحثنا عن شيء تسعفه به. وأخوه جري ليستدعي حلاق الصحة. وأمر عبد اللطيف أن يأخذه علي الركوبة إلي مستشفي المركز, لكنه كان أسبق من الجميع في المغادرة, سرعان ما سكتت الحركة في جسده وترهلت أطرافه وتجمدت النظرة في عينيه. كنا في الضحي, وبعد صلاة العصر كانت بلدتنا بأكملها تنتحب وهي تودعه في موكب مهيب إلي مثواه الأخير. المزيد من مقالات خيري شلبي