كان' عفيفي مطر' من أوضح أصوات جيله, وأقدرهم علي إثارة الدهشة والأسئلة, بسبب شعره اللافت, لكنه أظهر ترفعا كبيرا عن اللجوء لشخص أو جهة, في طبع كتاب. أو نشر قصيدة, وآثر تقديم ديوانه الأول' من دفتر الصمت'(1968) خارج مصر كلها تفاديا للخلافات, فصدر في دمشق, وتبعه عدة دواوين في دول متفرقة, مما تسبب في غيابه عن القارئ لفترات طويلة. وعفيفي من' موجة التفعيلة الثانية' في مصر, بعد' صلاح عبد الصبور', و'أحمد عبد المعطي حجازي', وظهر مع' محمد إبراهيم أبو سنة', و'فاروق شوشة', وأسبق من' أمل دنقل' وقصيدته تنفتح علي دلالات متعددة, ولا تمنح نفسها بسهولة للمتلقي إلا إذا بذل جهدا وافيا لامتلاك مفاتيحها. وكان يغشي المنتديات والمجالس والندوات للضرورة, لكنه تجنب الاحتفالات الرسمية, وكان يلوذ في أوقات كثيرة بقريته, للعكوف علي مشروعه بصبر الزاهدين, فأضفي علي قصيدته ألقا شفيفا لا يدركه إلا صوفي غمره الوجد, وتجنب الصوت السياسي الصريح, وكابد مع اللغة مما جعل قصيدته تبدو مستغلقة علي المتلقي المستسهل, فالشعر لديه كان جهدا شاقا وجهادا في اللغة, ومحاولة لتأويل العالم. وأنصت بإخلاص في مراحله الأولي لصوت الفلسفة التي درسها, كما بدا في ديوانه' ملامح من الوجه الأمبا ذوقليسي', وفي ديوانه الثاني' يتحدث الطمي' استلهم الأساطير والخرافات الشعبية وحكايا الريف, وتماهي الانسان مع الطبيعة الذي يمكن أن يموت ويعود في جذور شجر التوت, كما قال قصيدة' كلمة نفسي' من ديوان مجمرة البدايات : سأدفن مهجتي في الأرض كي تنمو بخضرة عود وفي دواوينه' الأرض والدم', و'رسوم علي قشرة الليل' وهو بداية التجريب لدي' عفيفي' واختبارطرائق أخري للكتابة , و'شهادة البكاء في زمن الضحك' أخذته السياسة بقصائد لم يكن يحبها وقال عنها في مرحلة لاحقة:' لو الأمر بيدي لشطبت نصف هذه القصائد'. ونتيجة لخبرات الاغتراب القسري في العراق, قدم ديوانه' والنهر يلبس الأقنعة' الذي رصد فيه تحولات الزمن والقيم وكل ما حدث في مصر, وكان نقده قاسيا وصادما. وأخيرا وصل إلي الديوان الذي سعي لكتابته طوال عمره' أنت واحدها وهي أعضاؤك انتثرت', وكتب فيه إهداء فريدا وجريئا إلي سيدنا محمد( صلي الله عليه وسلم). مما دفع البعض لاتهامه بالارتداد إلي الأصولية, بعيدا عما عرفوه في أشعاره المفعمة برؤي فلسفية, خاصة في ديوانه' ملامح من الوجه الأمباذوقليسي'.وفي' رباعية الفرح' وقف أمام عناصر الكون الأولية( الماء والهواء والتراب والنار), وهي الفكرة الفلسفية الأساسية في تفاصيل معيشة الفلاحين الذين يحتفون بهذه العناصر في كل حياتهم. وبعد تجربة الاعتقال في أوائل التسعينات أصدر ديوانيه' فاصلة إيقاع النمل' و' احتفاليات المومياء المتوحشة' وفي قصيدة' هلاوس ليلة الظمأ. وفي الفترة الأخيرة من حياته طارد شخصا آخر عاش بداخله طوال حياته, هو' عبد الله'. اسمه الأول الذي أطلق عليه عند ولادته, وحكي عنه في كتابه' أوائل زيارات الدهشة' سيرته الذاتية. وأهم درس استخلصه عفيفي من حياته البسيطة تعلمه من الفلاحين, وهو أن الحياة والقصيدة سعي دائم وجهاد لا يتوقف عن الحرث والغرس, ويبدو أن هذا ما حدا بالشاعر' محمد الفيتوري' أن يقول عنه:' كان يأخذ الحياة بقوة'. واشتهر عن عفيفي حبه الشديد للأرض الزراعية, وعمل في غيطه بيده مثل أي' فلاح دؤوب', فأشعل هذا ارتباطه بالأرض, ونشر رموز هذه الحياة في أشعاره, ويمكن لأي قارئ أن يشتم رائحة الطمي, ولهذا ظلت حياته آمنة ماديا, ومستقرة اجتماعيا, فنعم حتي اللحظة الأخيرة بدفء الأهل وحب الناس. لذا يبدو ما ردده البعض عن موته بسبب الإهمال شيئا سخيفا, ومخالفا للحقيقة, لأنه مات ميتة كريمة تليق بشاعر كريم, وسط أهله. رحم الله شاعرنا الكبير وطيب ثراه.