إذا كان فيلم بنتين من مصر قد تسلل إلي حياة حنان وداليا, وقدم لنا عالم العوانس, بكل ما فيه من أحلام وإحباطات, رغبة وكبت, وفرح وتعاسة, فأتصور أن عالم العوانس أكثر تعقيدا في الواقع من الصور الملونة علي الشاشة الفضية.. لأن الفيلم قفز إلي قضايا كثيرة متشابكة, كما لو أنه أخذ شريحة عريضة من المجتمع وراح يفسر لنا كل مشكلاته وأزماته, ومنها العنوسة! فالعنوسة ليست حنان وداليا, ولا أستاذة الجامعة العانس التي انتحرت قبل أيام, هن مجرد نماذج ل50% من المصريين في سن الزواج, ما بين سن الثامنة عشرة والخامسة والثلاثين, وعدد المصريين في هذه السن يقدر بنحو عشرين مليون نسمة, أي ما يقرب من عشرة ملايين إنسان يعانون من الوحدة, ومحرومون من الانتماء الجميل إلي الجنس الآخر, يمضون لياليهم في فراغ عاطفي, لا تلهث قلوبهم من الشوق واللهفة والترقب, لا تورق في صدورهم أوراق الحب الخضراء, لا يلقون رؤوسهم علي الوسادة الخالية, لا يسهرون سواد الليل, ولا يتبادلون الرسائل علي شعاع القمر. والإنسان الذي لا يحب كالصحراء الجرداء, تهجرها العصافير وتسكنها الجوارح, يخاصمها المطر وتتكاثر فيها الزواحف. وممارسة الحب ليست مجرد تفريغ طاقة بقدر ما هي تعبير عن التوحد وخصوبة الحياة.. وقد تفسر لنا أزمة العنوسة سببا من أسباب ميلنا إلي التعصب والعنف وبعدنا عن التسامح والرحمة. فكيف يتمتع مجتمع بالصحة النفسية وبه مايزيد علي6 ملايين امرأة وحيدة وأكثر من5 ملايين عازب حسب الاحصائيات الرسمية؟! وبقدر ما تزيل هذه الاحصائية ورقة التوت عن نظامنا العام وفشله في الوفاء بأبسط حقوق الإنسان, فهي تضع أيدينا علي بعض الظواهر التي يمكن رصدها بسهولة. أولا: إن العوانس من النساء يزيد عددهن علي العوانس من الرجال بأكثر من مليون نسمة, أي أن النساء يدفعن ثمنا نفسيا وجسديا واجتماعيا أكبر للأزمة الاقتصادية الضارية التي أخرت سن الزواج إلي ما بعد الخامسة والثلاثين, وهذه إحدي سمات المجتمعات عندما يعتريها الضعف والوهن, فتضغط علي مفاصلها الضعيفة كالمرأة والأقليات. ثانيا: عدد غير قليل من هؤلاء الفتيات لم يجدن العريس المناسب, بعضهن جميلات ومستورات ماليا, وتكاد تكثر الشكوي الآن من غياب أو ندرة هذا المناسب, خاصة للفتيات المتميزات ثقافيا وعقليا ونفسيا, فالرجل الشرقي مازال مترددا وخائفا من الاقتراب من المرأة ذات الشخصية القوية, لا أقصد المتسلطة أو العنيفة, ويهرب إلي النساء ضعيفات الإرادة, المؤمنات بالطاعة العمياء, القانعات بسلوك الجواري, وإذا سألت شابا: لماذا؟! يرد عليك دون تفكير: ياعم هو أنا ناقص وجع دماغ! وأعرف ابنة رجل أعمال شهير ذات جمال وثقافة وعلم تدير جزءا مهما من أعمال والدها حول العالم وتضارب في البورصات الكبري بنجاح مذهل وتقترب من الثالثة والثلاثين دون زواج.. فكل العرسان الأثرياء الذين تقدموا لها إما لا يتحملون عقلها وشخصيتها فيهربون أو تافهون ترفضهم من أول لقاء. ثالثا: من المؤكد أن عددا من هؤلاء الإناث في سن الزواج, ولم يعثرن علي ابن الحلال بعد, قد حللن مشكلاتهن سواء بالزواج العرفي, أو الزواج السري من رجال كبار السن لديهم قدرات مالية مريحة, أو بالانحراف, وهنا لا يمكن إغفال الطب النفسي, وفي دراسة أجراها طبيب علي عدد من مريضاته العانسات, إذا جاز هذا التعبير البغيض, وجد أن الفتاة تكبت غريزتها الطبيعية وتحاول تطويعها في انشغالات كثيرة في فترة المراهقة, وحين تكبر وتلح عليها الطبيعة, فهي أمام موقفين.. إذا كانت ناجحة في عملها فهو يمتص طاقاتها إلي حد كبير ويساعدها علي تجاهل الإلحاح, أما إذا كانت متوسطة النجاح ولديها وقت فراغ أطول فهي مضطرة إلي بذل جهد أكبر في غلق باب الغريزة بالضبة والمفتاح, وثمنه توترات عالية وعصبية وفقدان شهية للطعام أو افراط في الطعام واضطرابات في النوم سواء بكثرة النوم أو الأرق, وبالتدريج تفتقد البهجة في الحياة وتكتئب أو تتشدد في الدين باعتباره حبل الانقاذ لها من مغريات الدنيا وفتنتها, فتلقي بالحياة خلف ظهرها في انتظار الجزاء في الآخرة حيث النعيم المقيم والمتع التي بلا حدود. أما اللاتي يفشلن في غلق الباب جيدا لأسباب تتعلق بالضعف الانساني فيمكن أن ينجرفن إلي علاقات عابرة أو تفريغ الطاقة دون رجال حتي لا يحدث صدام مع التقاليد! هذا عن النساء.. فماذا يفعل أكثر من5 ملايين شاب غير قادرين علي الزواج لأسباب كثيرة..؟! الاختيارات محدودة للغاية ما بين الانحراف والتدين. الانحراف.. طريقه مكلف وغير مضمون العواقب. التدين الشديد طريق أسهل مأمون العواقب, ومن هنا تخرج فتاوي.. بنطلون المرأة حرام, الوجه والكفان عورة وعمل المرأة خروج علي الملة والنقاب هو الحل.. فهؤلاء الشباب في حاجة فعلا إلي التخلص من كل ما يذكرهم بالمرأة والغريزة, وهم لا يستطيعون ذلك إلا باسترداد حالة التراجع العقلي التي كانت عليها الأمة أيام العثمانيين, وشيوخ التفسير ودعاة الفضائيات جاهزون بكل ما يسجن المرأة خلف الجدران أو خلف الثياب, المهم أن يختفي الإغراء والغواية المتمثلة في الأنثي. نعم لدينا خمسة ملايين قنبلة موقوتة تمشي في شوارعنا, تتحرك بيننا, وقد يكرهنا هؤلاء الشباب العاطل عن الحياة, ومن حقهم أن يلقوا بحجر المسئولية في وجوهنا أو يفكروا في الثأر منا.. هل لديكم تفسير آخر لظاهرة التحرش الجنسي في مجتمعنا؟! ونحن رقم واحد علي العالم في هذا السلوك المشين السافل. يبدو أننا أصبحنا قادرين علي صناعة الانحراف, والخطر أكثر من قدرتنا علي صناعة التنمية.. المزيد من مقالات نبيل عمر