قد يسير الواحد منا دون أن يلحظ في طريق كراهية النفس والانتقام منها, ومن يرغب في معرفة عدد السائرين إلي تلك الرحلة, عليه أن يسأل عن عدد الذين يعانون من ضغط الدم أو مرض السكر أو أزمات القلب, ففي قاع نهر الاصابة بتلك الأمراض يمكننا أن نري كراهية النفس كعامل شديد القدرة علي إضعاف مقاومة الجسم ضد تلك الأمراض التي قد يكون لبعضها جذور في الوراثة, ولكن تأكد الإصابة بها يكشف عن درجة ما من الانتقام الذاتي الذي يمارسه الانسان ضد نفسه, لا بأسلوب حياته الممتليء بالفوضي فقط, سواء طريقة تناوله للطعام, أو انغماسه فيما يضر من العادات, بل الاندماج في نسيان حقيقة أساسية وهي أن الجسد البشري هو مملكة الروح وليس بيتا تسكنه عفاريت الطموح والأطماع التي تنسي الإنسان قيمة سيطرة الروح علي تفاصيل إدارة الحياة. هكذا كانت تتحدث صديقتي الدكتورة فيفيان بشارة ماكورمك المصرية الميلاد والمحاضرة في علم النفس بجامعة فيرجينيا, فتقول في واحدة من محاضراتها قد تبدو الحياة الأمريكية هي النموذج الذي يسعي إليه المليارات من شباب العالم علي ضوء الصور المتتابعة علي شاشات التليفزيون في المسلسلات والأفلام, حيث السيارات الفارهة والبيوت المتسعة وسهولة الحصول علي الدولارات, علي الرغم من أن الواقع اليومي يؤكد أن الأمريكي هو من أكثر البشر معاناة من فيضان تزييف الخيال عبر الاعلانات التي تصور امتلاك الأشياء علي أنه جوهر التطور, بينما جوهر التطور ينبع أساسا من إعادة السيطرة علي الجسد بإطلاق قدرات الروح لتتأمل بميزان شديد الحساسية في معني ما يمكن أن يستفيد منه الإنسان إن غرق في ديون البطاقات الائتمانية, وأقساط المنزل الباهظة أو ارهاق تمني الأشياء التي تمنحك رفاهية هائلة دون أن تزيد من دخلك أو تساعدك علي تطوير نفسك. وأضافت د. فيفيان إن عصرنا يبيع لنا جميعا أوهاما ضخمة تضم في أعماقها منافع صغيرة. وعلي الانسان ألا يستبدل راحة معدته علي سبيل المثال بوهم الأطعمة الجاهزة التي تقوم مقام معاول الهدم للجسد, فتزيد نسبة الدهون الضارة, بل علينا أن نتعلم من اليابانيين علي سبيل المثال أيضا أن الوجبة الفاخرة هي الوجبة القليلة الحجم والمنوعة الفائدة, فما معني التهام كوب ضخم للغاية من المياه الغازية, وهو يحمل في داخله كمية هائلة من الخديعة الممزوجة بمواد تسبب سمنة مفرطة, إنها ممارسة كراهية النفس, لأننا لا نمد أبصارنا إلي ما بعد شرب تلك الكمية الضخمة من المياه الغازية. وسألتني د. فيفيان سؤالا شخصيا لقد كنت أراقب ملامحك المندهشة وأنا أوصي تلاميذي بقراءة الأديب الألماني هيرمان هسه, وهو من أوصاني بقراءته أستاذنا الراحل الأستاذ الدكتور حسن ظاظا أستاذ الأدب المقارن واللغات الشرقية وهو من درست علي يديه في آداب الإسكندرية قبل أن أهاجر إلي فرجينيا, وكان حسن ظاظا يري أن الأدب العظيم هو المعلم العظيم لصيانة الحياة, وهو من نال أكثر من درجة دكتوراه من السربون في العديد من فروع اللغات, وكان يري في هيرمان هسه الألماني الذي عاش بعمق في حالة مزاوجة هائلة بين حضارة الغرب المادية وحضارة الشرق الروحانية, فأنتج لنا أدبا رفيعا تمثل في روايات هامة مثل سد هارتا عن بوذا وحياته التي بدأها غارقا في اللذائذ وانتهي إلي معني غني النفس بمعرفة قيمة ما يجب أن يسعي إليه فقاد العديد من البشر إلي صفاء مملكة الجسد بسيادة الروح, وهو أيضا مؤلف رواية لعبة الكريات الزجاجية التي تصف حقائق مصالحة العقل مع الروح, ولعلك لا تعلم أن هيرمان هسه الذي تشرب بثقافة الهند والشرق, وثقافة المادة في الغرب وخضع لنزق الصراع النفسي, ثم وصل إلي شاطيء الأمان, لعلك لا تعلم أنه كان الدافع وراء دراستي وتدريسي لعلم النفس بعد أن هاجرت من مصر إلي فيرجينيا. أقول: ولكنك كدارسة لعلم النفس كيف لك أن تعرفي أن كراهية النفس تقود إلي أمراض مثل ضغط الدم والسكر وأمراض القلب؟ تقول لي: لقد درست في مشروع مشترك مع مستشفي الجامعة اعدادا هائلة من المصابين بتلك الأمراض, ووجدت في مجموع من درستهم انغماسا في كل ما هو مسبب لتلك الأمراض, فأسلوب الحياة غير المتوازن هو الذي يوقظ العوامل الوراثية لتلك الأمراض في الجسد, ولو أبطأ الإنسان في سرعة اللهث من أجل أهداف تفوق قدراته, لاستمتع بصحة نفسية تحميه من تلك الأمراض, فكأن اللهث غير المجدي أو الذي يدفعك إلي الصراع, هو نوع من كراهية النفس إلي درجة تدميرها. تركت د. فيفيان لأسبح بالتأمل في أدب هيرمان هسه الذي يمكن أن نتعلم منه فن الحياة دون كراهية. المزيد من مقالات منير عامر