لم نكد نضع يدنا علي مؤشرات الحضارة العالمية الجديدة, والتي تتمثل أساسا في بروز ظاهرة الوعي الكوني بآثارها الإيجابية علي توحيد الشعور الإنساني إزاء قهر الشعوب وظواهر الاستعمار والاحتلال. وخصوصا بالنسبة الي شعبنا الفلسطيني في غزة والقطاع, حتي برزت لنا ممارسات سلبية معاصرة تكشف عن ظهور القبلية الجديدة واتخاذها صورا سلبية شتي. وهناك إجماع من الباحثين علي أن البروز القوي للعرقيات والطائفيات والمذهبيات وكذلك القبلية, هو ناتج سلبي من سلبيات العولمة التي سعت لتوحيد العالم, متجاهلة الخصوصيات الثقافية, مما أدي الي بعض النعرات القديمة دفاعا عن الذات. ومعني ذلك أن لدينا كما يقرر الدكتور عبد الله الغذامي في كتابه المهم القبلية والقبائلية أو هويات ما بعد الحداثة( بيروت: المركز الثقافي العربي, ط2009,2) صورتين, الصورة الأولي التي ركزنا عليها من قبل والتي تشير الي أننا نعيش زمن العقلانية والعلم والانفتاح الكوني, والتعاطف مع الآخر. والصورة الثانية هي هذا الارتداد السلبي الي الطائفيات والمذهبيات بل وأكثر من ذلك, تطوير تقاليد القبلية لتصبح كما يطلق عليها الغذامي قبائلية جديدة! كيف نفسر تجاور هاتين الصورتين المتناقضتين معا في نفس الحقبة التاريخية, وفي ثقافات شتي تتراوح بين التقليدية والحداثة وما بعد الحداثة؟ لقد سبق لنا في دراستنا تغيير العالم: جدلية السقوط والصعود والوسطية( منشورة في كتابنا الوعي التاريخي والثورة الكونية: حوار الحضارات في عالم متغير, القاهرة: ط1996,2), أن قدمنا نظرية لتفسير تحولات العالم أطلقنا عليها التوفيقية أساس النظام العالمي. وذكرنا أنه ستكون هناك محاولات للتوفيق بين الفردية والجماعية, وبين العلمانية والدين, وبين عمومية مقولة الديمقراطية وخصوصية التطبيق في ضوء التاريخ الاجتماعي لكل قطر, وبين الاستقلال الوطني والاعتماد المتبادل, وأهم من ذلك كله بين الأنا والآخر علي الصعيد الحضاري. غير أننا وضعنا شروطا لكي ينجح هذا النموذج التوفيقي العالمي. وقررنا أن هذا النموذج سيتسم بسمات أربع لو استطاعت قوي التقدم أن تنتصر علي قوي الرجعية. وهذه السمات هي التسامح الثقافي المبني علي مبدأ النسبية الثقافية في مواجهة العنصرية والمركزية الأوروبية, والنسبية الفكرية بعد أن تنتصر علي الإطلاقية الإيديولوجية, وإطلاق الطاقات الخلاقة للإنسان في سياقات ديمقراطية, بعد الانتصار علي نظريات التشريط السيكولوجي والتي تقوم علي أساس محاولة صب الإنسان في قوالب جامدة باستخدام العلم والتكنولوجيا. وإحياء المجتمع المدني في مواجهة الدولة التي غزت المجال العام, ولم تترك إلا مساحة ضئيلة للمجال الخاص, وأخيرا التوازن بين القيم المادية والقيم الروحية والإنسانية. وقد عبر عن هذه الرؤية بوضوح باسو هيرو ناكاسوني رئيس وزراء اليابان السابق في مقال مهم نشر في مجلة سيرفيافل في ديسمبر1988 ذكر فيه أنه عندما يمر المجتمع الدولي والمجتمعات المحلية بتحولات سريعة, فإن الأفراد والشركات والأمم لن يمكنها الاستمرار في تأكيد وجودها ودعم بقائها إلا إذا أزالوا الحواجز التي تفصل بينهم ويحترم كل طرف وجود الآخر. إننا مقبلون علي عصر سيكون فيه التجانس والتضامن المستمدان من أسمي تطلعات الروح البشرية هما المطلب العاجل والملح للبشرية. وقد صدقت هذه النبوءة, وتجلت في تضامن مئات المتضامنين في أسطول الحرية وسفينة راشيل كوري, انتصارا للحق الفلسطيني في الحياة وضد العدوان الإسرائيلي. وقد حاول الدكتور الغذامي إيجاد تفسير لتجاور هاتين الصورتين معا في نفس الحقبة التاريخية, وهما عودة الهويات الأصلية من جانب الذي عبرت عنها القبلية الحديثة أو القبائلية بتعبيره, والتسامح الثقافي من جانب آخر. اعتمادا علي برتراند راسل يقول إن المدينة الكبري الحديثة لا تختلف عن القبيلة القديمة في نسقية كل منهما, فالعنف والاضطهاد والاستعباد الاقتصادي واللامعقولية الاجتماعية, هي خصائص تاريخية سواء في زمن القبيلة أو في زمن المدينة الحديثة, مدن العواصم الكبري والحواضر الحديثة. فهي إذن ظاهرة ثقافية غير ظرفية, أي أنها عابرة لحدود الزمان والمكان وحدود الثقافات. بعبارة أخري هناك صراع دائم بين الأنساق المغلقة التي تحض علي العنف والتعصب, والانساق المفتوحة التي تدفع في اتجاه التسامح والاعتراف بالآخر. وقد حاول الغذامي صياغة تفسير لعودة القبائلية حصره في أسباب أربعة: السبب الأول يتمثل في الخوف الذي أصاب البشر في كل مكان, نتيجة طغيان ثقافة الصورة, التي نقلت للناس في كل مكان بحكم الثورة الاتصالية الكبري مناظر الخراب والموت والمجاعات والحروب وانهيار البيئة والتذكير الدائم بمخاطر نضوب المياه من علي كوكب الأرض ونضوب الطاقة وتلوث البيئة. وهو خوف كوني إن صح التعبير مما جعل الثقافة البشرية بحالة سيكولوجية حساسة للغاية, وهو ما يؤدي للجوء الي الوهم والأسطورة, لتحصين الذات وحمايتها من خلال بعض التحيزات الفئوية بأصنافها الطائفية والمذهبية والعرقية. غير أنه يلفت النظر أن الغذامي يضيف سببا سوسيولوجيا هذه المرة, يتمثل في سقوط الطبقة الوسطي وما تمثله من رمزيات وقيم حداثية سياسية واقتصادية. لقد كان بروز هذه الطبقة في مرحلة ما بعد الحرب العالمية الثانية ومرحلة ما بعد الاستعمار, رمزا علي اتساع قاعدة الرخاء الاقتصادي, وإشارة الي إمكانية تحقيق أحلام الناس في التحرر والتعلم والرقي الاجتماعي. غير أن انكسار هذه الدعوة, والذي أدت إليه أزمة دولة الرفاهية أضاع كما يقول الغذامي الحس التفاؤلي بالحياة والشك في قدرة القيادات علي حل المشكلات. وهكذا أظلم المستقبل, وفاقم من مشاعر الناس ظهور العولمة الرأسمالية المتوحشة التي تركز علي تراكم الأرباح, ولا تلقي بالا الي كل ما هو إنساني. والسبب الثالث هو انهيار المشروع الكوني في التعليم, وتلاشي الأمل في أن يكون التعليم هو المنفذ من الضلال السياسي والاجتماعي. وأخيرا لدينا سبب آخر هو كمون الأنساق المغلقة بما تتضمنه من طائفية وعصبية وقبلية, وظهورها حين يمر المجتمع بأزمة عميقة. وخلاصة ذلك كله أن عصرنا الراهن الذي دخلناه ونحن ممتلئون تفاؤلا شجعته العولمة بتجلياتها السياسية وهي الديمقراطية واحترام التعددية وحقوق الإنسان, وتجلياتها الاقتصادية في تحقيق الرخاء لكل البشر, وتجلياتها الثقافية في صياغة ثقافة كونية تقدمية, كشف عن عديد من جوانب الفشل. فمازالت النظم السياسية السلطوية متحكمة, والديمقراطية تمر بأزمة, وأدت العولمة الي تهميش طبقات اجتماعية متعددة علي المستوي الكوني, والثقافية الكونية العابرة للثقافات مازالت تناضل ضد الطائفية والعصبية وتجاهل الحقوق المشروع للشعوب. بعبارة مختصرة نحن نعيش عصر التناقضات الكبري, ولكن لدينا أمل في انتصار القوي التقدمية علي القوي الرجعية. ومما لا شك فيه أن أسطول الحرية وسفينة راشيل كوري, والسفن التي ستخوض البحر تباعا متجهة الي غزة قد غذت هذا الأمل, لأن اجتماع الجماهير من جميع الدول والتي تنتمي الي ثقافات متعددة علي تحدي الحصار الإسرائيلي علامة علي أن الميزان سيتحول في المستقبل القريب لصالح القوي المحلية, التي قررت تحدي المستحيل, إيمانا منها بالقيم الأساسية للحضارة الإنسانية الجديدة.