جرت علي صفحات الأهرام خلال الفترة الأخيرة مساجلات بين الأستاذين مكرم محمد أحمد والدكتور عبدالمنعم سعيد بمناسبة حوار أجراه الأستاذ مكرم مع وزير الاستثمار عن الأوضاع الاقتصادية في مصر. وقد رأي الدكتور سعيد أن هذا الحوار يعكس, إلي حد بعيد. رؤية جيل يتشكك في اقتصاد السوق في مواجهة جيل لاحق أكثر انحيازا لهذا الاقتصاد, ورد الأستاذ مكرم مؤكدا أن حواره مع وزير الاستثمار, لم يكن تعبيرا عن موقف إيديولوجي إزاء اقتصاد السوق بقدر ماكان مناقشة مهنية من صحفي يسعي إلي سبر أفكار الوزير. وكان الأستاذ أحمد النجار المسئول عن إصدار تقرير الاتجاهات الاقتصادية الاستراتيجية, قد طلب مني منذ فترة إعداد ورقة عن مستقبل النظام الرأسمالي, لنشرها في تقرير هذا العام, وقد رأيت, في ضوء الحوار الجاري علي صفحات الأهرام, أن أعرض بشكل مختصر ماانتهيت إليه في تلك الورقة عن مستقبل السوق والدولة, وهو جوهر المناقشة في الحوار الدائر. ولعل نقطة البدء هي ضررة التأكيد علي أن مايطلق عليه اسم الرأسمالية( اقتصاد السوق) ليس وليد نظرية علمية, وبالتالي فليس للرأسمالية كتاب مقدس يحدد معالمها علي نحو واضح ومحدد, وإنما نحن بصدد ظاهرة اجتماعية اقتصادية تكنولوجية تجمعت عناصرها في لحظة تاريخية عموما منذ نهاية القرن الثامن عشر وتطورت ولاتزال في ضوء احتياجات المجتمعات. وفي كثير من المناقشات يختصر النظام الرأسمالي علي أنه نظام السوق, وهو ابتسار مخل, فرغم أن تاريخ الرأسمالية هو تاريخ انتعاش السوق وازدهارها, فإنه أيضا وبنفس القوة هو تاريخ بروز مفهوم الدولة الحديثة وهيمنتها, ورغم أن الباعث في سلوك الأفراد في نظام السوق هو المصلحة الخاصة, فإن المحصلة النهائية هي مصلحة المجتمع نتيجة للمنافسة( اليد الخفية). فالاحتكار عدو المصلحة العامة. والحديث عن اقتصاد السوق بعيدا عن الدولة هو حديث عن مجتمع خيالي لا وجود له, فوجود الدولة أمر حاسم لعمل السوق. وإذا كانت السوق تعمل بباعث المصلحة الخاصة, فإن الدولة تعمل باسم المصلحة العامة, وترك المصالح الخاصة وحدها دون رادع قد يؤدي إلي الخراب العام فاقتصاد السوق دون دولة قوية وقادرة وكفء هو كسيارة بلاكوابح في طريق بلا علامات أو إشارات للمرور. ومن هنا لم يكن غريبا أن تكون نشأة الرأسمالية مرتبطة بظهور الدولة الحديثة. ويمكن اختصار دور الدولة في إطار اقتصاد السوق, في ثلاثة مجالات: في مجال الإنتاج: الدولة مسئولة عن توفير كل مايتعلق بما يعرف بالسلع العامةPublicgoods, وهي السلع والخدمات التي تعم منافعها للجميع أو لقطاعات واسعة دون أن يمكن حجب الانتفاع بها من الآخرين, مثل الدفاع والأمن والعدالة وحماية البيئة.. فلا أحد مستعد لدفع ثمن مقابل خدمات الأمن أو الدفاع أو العدالة أو حماية البنية, لأنه يعرف أنها متي توافرت فسوف يفيد منها الجميع, فلماذا يدفع مقابل لها وهي متاحة للجميع؟ ولهذا لاتصلح السوق لها أصلا, فهذه الخدمات لايمكن توفيرها من غير السلطة ويتم تمويلها عن طريق الضرائب عادة ويرتبط بهذه السلع نوع قريب منها وهو السلع والخدمات الاجتماعية, والتي تفوق منافعها المستفيد المباشر منها لكي يفيد منها المجتمع في مجموعة مثل التعليم والصحة والبحوث العلمية والصناعات الإستراتيجية والطرق والمواني.. ويرتبط بنفس المنطق منع أو تقييد السلع الضارةbadsPublic مثل منع الممارسات الاحتكارية أو ترويج المخدرات. ومن الواضح أنه مع التقدم الاقتصادي والتكنولجي, وتزاحم السكان, فإن الكثير من الحاجات تتجه لتصبح سلعا عامة أو اجتماعية أو حتي ضارة مما يتطلب تدخل الدولة لتوفيرها أو تنظيمها أو منعها. في مجال العدالة الاجتماعية: لايحدث النمو الاقتصادي التلقائي عادة بشكل عادل فهو كثيرا ما يؤدي إلي تمايز اجتماعي وأحيانا طبقي, ولذلك فإن الدولة منوط بها إصلاح الاختلالات الناجمة عن تزايد الفروق الاجتماعية. في مجال السياسات الاقتصادية للنمو والاستقرار: أظهرت التجربة المعاصرة أن التقدم الاقتصادي والاجتماعي لايتحقق في مسيرة هادئة بل عبر طريق وعر من المطبات مما يحتاج لسياسات واعية لتحفيز الاستثمار والادخار وحسن إدارة الموارد الاقتصادية مما يتطلب حزمة كاملة من السياسات المالية والاستثمارية والنقدية والصناعية, فضلا عن إطار قانوني مناسب. ومع تزايد الترابط الاقتصادي العالمي, برز علي السطح أيضا أهمية الاستقرار المالي والنقدي العالمي مما يتطلب تنسيقا في السياسات بين الدول. ويتضح من هذا الاستعراض السريع أن الرأسمالية قد اعتمدت منذ نشأتها علي ركيزتين هما السوق والدولة, وأن كلا منهما خضع لتطورات متعددة وأحيانا متعارضة فيما بينها. وعندما نتحدث عن مستقبل الرأسمالية, فلايكفي أن ننظر إلي تجربة الماضي, بل لابد أن نأخذ في الاعتبار أهم التطورات المتوقعة. ويمكن الإشارة هنا إلي عدة بؤر للقلق للقرن الحادي والعشرين, ومنها التغيرات الديموغرافية, ومايرتبط بها من استمرار التزايد السكاني خاصة في الدول النامية مع تزايد الأعمار في معظم الدول مما سوف يطرح قضايا التأمين الاجتماعي علي المحك. وهناك كذلك قيود البيئة التي يتعرض لها كوكب الأرض بشكل متزايد, مما ساعد علي ظهور مايطلق عليه السلع العامة العالميةGlobalPublicgoods, والتي تتطلب تعاونا دوليا, وبالمثل فإنه لايمكن تجاهل المخاطر. وأخيرا فلايجوز أن نتجاهل أن الحديث عن الاستقرار المالي لم يعد مجرد مشكلة محلية بل أصبح لها بعد دولي يتطلب تعاونا دوليا. في ضوء التجارب السابقة والتطورات المتوقعة فإن السؤال يصبح في حقيقته ماذا عن مستقبل كل من السوق والدولة؟ فهل يستمران, أم يبقي أحدهما ويزول الآخر؟ وإذا استمرا, فما هو شكلهما, وما شكل العلاقة بينهما؟ اعتمادا علي ماوصلت إليه البشرية من تقدم تكنولوجي, ومع تجربة تاريخية طويلة ومعقدة, وفي ضوء الاحتياجات الشعبية, فإن الأكثر احتمالا هو استمرار شكل من أشكال اقتصاد السوق في المستقبل المنظور, وفي الوقت نفسه تستمر كذلك الدولة الوطنية ويتعمق دورها مع تزايد أهمية التعاون الدولي. وفي هذا الإطار المعولم, فإن السوق مهيأة للتوسع سواء باتساع نطاقها الجغرافي أو باقتحام قطاعات كانت بعيدة عن السوق. فبعد أن بدأت السوق محلية في إطار القرية أو الإقليم, فإذا بها تصبح وطنية لتشمل معظم أرض الوطن, وهي الآن تتجه لتصبح عالمية التوجه وبحيث تكاد تغطي أرجاء المعمورة, ولايقتصر التوسع في الأسواق علي الانتشار المكاني, بل أن السوق تقتحم كل يوم مجالات كانت غريبة كلية علي مفهوم السوق. فمجال الفنون والآداب بدأ يستقطب النجوم للعمل من أجل السوق, وحتي الرياضة غلب عليها الاحتراف, فقد أصبح لاعبو الكرة أو التنس هم نجوم الدعاية والاعلان. ولكن هل يعني هذا الانتعاش لظاهرة السوق أن اقتصاد السوق قد أصبح أكثر تحررا وانطلاقا؟ كلا, فالصحيح هو أن السوق تخضع الآن لمزيد من الرقابة والإشراف, وسوف تتزايد القيود والضوابط كل يوم علي المنتجين, كما أصبحت الحكومات أكثر تنبها لمحاربة الاحتكار وضمان المنافسة. فالسوق سوف تكون أيضا مقيدة أكثر من أي وقت مضي بضوابط وقيود متعددة لحماية المستهلك حينا, وتوعية المستثمر حينا آخر, وضمان ترشيد استخدام الموارد النافدة حينا ثالثة. السوق سوف تتسع وتتعمق. لكنها ستكون مقيدة أكثر من أي وقت مضي, سواء في إطار قيود ومعايير محلية أو عالمية. وماذا عن مستقبل الدولة؟ لعل النقطة الأولي المهمة فيما يتعلق بدور الدولة هي التأكيد علي تزايد أهمية المجتمع الدولي في حياة كل دولة. فالسيادة المطلقة للدولة داخل حدودها هي في تراجع مستمر, ويبدو أن الدولة ستواجه هي الأخري وضعا غير مختلف عن وضع السوق, ذلك أن المستقبل سوف يحمل الدولة مسئوليات متزايدة في الحياة الاقتصادية, وفي نفس الوقت سوف ستزداد القيود والضغوط المفروضة عليها من الداخل والخارج. بقي أن نشير إلي أنه رغم أن مستقبل الرأسمالية من الدولة يتطلب تدخلا واسعا وعميقا ومتنوعا في الحياة الاقتصادية علي نحو غير مسبوق, فإنه يتطلب أيضا أن يكون ذلك تدخلا ذكيا وناعما وفعالا في نفس الوقت, فالدولة الحديثة دولة قوية ولكنها ليست مستبدة. وكل هذا يفترض ضرورة توافر إطار عام من الشفافية والمساءلة والبعد عن تعارض المصالح. وهكذا فإن نجاح الدولة في أداء دورها الاقتصادي يتطلب تداولا في السلطة, واستقرارا لمفهوم دولة القانون واستقلالا للقضاء. فالدولة الرأسمالية لن تقوم بدورها بكفاءة في غياب الديمقراطية السياسية. كذلك لن تقتصر الساحة علي السوق والدولة فقط, بل ستزيد من أدوار لاعبين آخرين في مقدمتهم المجتمع المدني أيضا فالمجتمع الحديث بطبيعته متعدد الأقطاب. وهكذا, فأغلب الظن أن المستقبل يدخر دورا متعاظما لكل من السوق والدولة, ولكنه دور مسئول خاضع لمزيد من القيود والضوابط فكما أن الحرية لاتقوم وحدها دون مسئولية. فإن اتساع مجال الحرية والحركة أمام السوق والدولة سوف يصاحبه مزيد من المسئولية والمحاسبة والله أعلم. المزيد من مقالات د.حازم الببلاوي