هل يمكن أن يكون الفرح في شتي ألوانه وتجلياته ملهما لإبداع حقيقي؟ أم أن شرط الإبداع أن يكون صاحبه في معاناة هائلة, وظروف حياتية قاسية وحرمان قاس,وتعاسة دائمة؟ كثيرا ما كنا نقرأ ونستمع لمن يرددون مثل هذا الكلام. ويدللون علي هذا بأن الأدب الروسي الكلاسيكي العظيم علي سبيل المثال ازدهر في عصور سيطرة الإقطاع والتخلف ومعاناة الجماهير من الفلاحين والعمال وصنوف القهر والعنف والتحكم والسيطرة, في حين تغيرت مستويات الإبداع فيه, وتضاءل وهجه وعنفوانه بعد قيام الثورة البلشفية, وتغير أوضاع الناس وأحوالهم, والقضاء علي الإقطاع والتخلف وصور البؤس والحرمان. ويدخل إلي دائرة الجدل والحوار من ينفدون من ثقب التفسير النفسي والوعي بأحوال الإنسانية, وهؤلاء يرون أن المبدع حين يكون في حالة معاناة داهمة, يصبح في حاجة إلي الآخرين, يبثهم همومه وأشواقه و أحزانه. أما في حالة فرحه وسروره ونشوته بالحياة, فهو ينكفئ علي ذاته, ويمارس حظه من السعادة في أنانية بالغة, لا تعنيه عندها مشاركة الآخرين, ولا تعاطفهم معه, لأنه ليس في حاجة إليهم, إذن فالبؤس والتعاسة والأحزان تجعله في حاجة إلي مؤانسة الآخرين وعونهم, وتعيده إلي بشريته وإنسانيته, أما الفرح والسعادة فيدفعانه دفعا إلي نسيان الآخرين وإدارة ظهره لهم. لكن شاعرا عربيا كبيرا, هو الشاعر السوري شوقي بغدادي يخالف القاعدة التي بني عليها هؤلاء أحكامهم وتصوراتهم عن مصادر الإبداع, حين يري أن الفرح يمكن أن يمنح ما لا تمنحه التعاسة, وأن هناك مئات اللحظات والأحداث, بل آلافها, تمر بالإنسان وتجعل وجدانه يهتز لما تثيره من فرح وشعور عميق بالسعادة والرضا والنشوة. إنه يثور علي البكائين الذين يصرون علي تمجيد الألم العبقري الذي يصنع العظماء, وفي عبارة الألم العبقري إشارة واضحة إلي بيت شوقي شاعر العصر الحديث في مسرحيته الشعرية مجنون ليلي علي لسان الأموي صديق قيس وهو يخاطبه: تفردت بالألم العبقريوأنبغ ما في الحياة الألم ويثور علي كذب الرومانسيين الذين قال أحدهم: لاشئ يجعلنا عظماء مثل ألم عظيم, ويري أن العظيم هو الذي يبدع الألم العظيم وليس العكس, أما الصغار فإنهم لايبدعون سوي الآلام الصغيرة مثلهم. والشاعر شوقي بغدادي الذي طالت به الرحلة مع الإبداع الشعري منذ أصدر ديوانه الأول أكثر من قلب واحد عام1955, وبعده لكل حب قصة وأشعار لا تحب و بين الوسادة والعنق وصوت يحجم الفم و ليلي بلا عشاق و قصص شعرية قصيرة جدا و عودة الطفل الجميل ورؤيا يوحنا الدمشقي وشئ يخص الروح والبحث عن دمشق وحدائق قديمة هذا الشاعر يصارحنا في تقديمة لديوانه الجديد ديوان الفرح بكلام يقول فيه: كيف تصنع مع ولد ضال عاد؟ وصديق مريض شفي, ومع أصداء موسيقي ساحرة تداعب سمعك من بعيد, ومع غرسة ورد ذابلة, زرعتها ولم تستجب لعنايتك المديدة, وإذ في ذات صباح ربيعي منعش اكتشفت أنها تستعيد عافيتها, وأن مشروع برعم يتشكل علي أحد فروعها كأنه جنين يتلامح وراء بطن أمة؟ ماذا تصنع مع عشرات, بل مئات من هذه الأحداث السعيدة, صغيرة كانت أم كبيرة, تعترض درب متاعبك وآلامك؟ هل تتجاهلها مستخفا بها احتراما للألم العبقري أم تفرح بها, ولماذا لا يكون للفرح كما للألم نصيب في صنع هويتك؟ ثم يقول شوقي بغدادي: لماذا الفرح؟ سؤال لم يعد واردا طرحه في اعتقادي, إلا إذا صار مألوفا تفضيل الموت علي الحياة, وإن لا.. فما دمنا علي قيد الحياة وفي صحة جيدة وحريصين كل الحرص علي أن نمد في بقائنا حتي ولو مع أوجاع الأمراض المستعصية التي لا تطاق فهذا معناه أن معجزة الحياة بحد ذاتها جديرة بأن تمنحنا مسرات لا حدود لتنوعها ووفرتها, وما علينا سوي الانتباه لها. وحين يفسح في شعره مساحة للفرح, تسعفه في خريف العمر, نراه يقول: أنا لست سوي طفل في السبعين/ لا أشعر بالشيخوخة/ إلا حين أغادر هذا الركن/ في ظهري فقرات تتآكل/ وبحلقي تشويش يزعجني/ وبأنفي ماء ملعون لا ينضب/ ثمة أوجاع أخري لم أذكرها/ وهواجس لا يدرك قيعان مخابئها إلا ربي/ لكني مجنون بعض الشئ/ أداري أفكارا مهلكة/ فأخف إليك/ فأجلس في ركني/ أشهد كيف دمشق تموت وتحيا/ كيف الأفق الشرقي يصير خلاصا/ والوهج المتصاعد خلف الغوطة/ ووراء عمارات الإسكان/ يفتح قدامي أبوابا لقصور/ من غير زمان/ فإذا بي أهبط من طائرة/ في غير مكان/ في بلدآخر أجمل/يبزغ من خلف النسيان/فإذا بي أطفيء كل فوانيسي/ و أزرر في برد الإصباح قميصي/ ثم أوحوح فوق يدي/و أسترخي من غير نعاس كالنعسان/ لا شئ سواك الآن/ لا شئ سوي هذه المعجزة اليومية/ تأخذني فتفكك أعضائي/ ثم تعيد صياغتها/ وتطوح بي من بعد إلي الشارع/ أقوي وأرق وأذكي/ يا سبحان الله!/ ما ألطف هذه الدنيا/ ما أجمل دهشتها بي/ ما أعجب ما تمنحني منها/ أو من نفسي/ ما أقواني في تلك اللحظة/ بل في كل الوقت/ علي أن أسبح ضد التيار/ وأبقي محتفظا بالوهج الطالع/ من آبار القلب/ إلي عيني, يدي إلي رأسي! ما أبدعها شمسي!. في مثل هذا الشعر, يكمن إبداع الفرح!