تحدثت في مقالي السابق عن موضة تمجيد العصر الملكي وتصويره علي أنه العصر المثالي. وتبينت من تعدد ردود الأفعال أن هذه القضية تشغل الرأي العام في مصر بقدر كبير. وقد راعني في الفترة الأخيرة من يتحاورون مع السيدة فضيلة الزوجة السابقة للأمير أحمد فؤاد ويطلقون عليها لقب جلالة الملكة كما يطلقون علي الأمير أحمد فؤاد لقب ملك مصر. وتذكرت يوما كنت أجلس فيه مع الأمير أحمد فؤاد والفنان الكبير عمر الشريف في باريس وكنت أناديه كعادتي بلقب سمو الأمير وفوجئت بعمر الشريف يقول لي: لماذا لا تناديه جلالة الملك؟ وأراد الأمير فيما يبدو تفادي الخوض في أحقيته لحمل لقب ملك مصر فأجاب حرفيا بأدبه الجم: نحن أصدقاء.. والمفروض أن يناديني فؤاد. وظللت طبعا أناديه بلقب سمو الأمير لاقتناعي بأن هذا هو اللقب المناسب. صحيح أن والده الملك فاروق تنازل له عن العرش وعمره ستة أشهر لكنه تم إلغاء الملكية وهو لم يتجاوز عام ونصف من العمر كما أنه لم يحدث أن تم تتويجه ملكا للبلاد. وهناك تقليديا لحظة فارقة تجعل المرشح للملك حاكما شرعيا. فالخلفاء كانوا يأخذون البيعة ولا يكون ولي العهد خليفة إلا بعد ذلك. وفي فرنسا كان ولي العهد لا يصبح ملكا إلا إذا تم تتويجه في كاتدرائية مدينة رنس بالذات. وفي القرن الخامس عشر كان الانجليز يحتلون هذه المدينة فظلت فرنسا سنوات طويلة بلا ملك, إلي أن جاءت جان دارك وحررت مدينة رنس وتوج ولي العهد ملكا, وكان هذا أعظم إنجازاتها وأحرقها الانجليز لما فعلته. وقد تناقشت في هذا الموضوع مع الراحل الدكتور يونان لبيب رزق فقال إن هذا الأمر ليس واضحا عندنا, والمفروض أن إلقاء خطاب العرش هو أول عمل رسمي يقوم به ملك مصر. وعلي العموم فقد خرق الأمير أحمد فؤاد واحدة من القواعد الذهبية لأسرة محمد علي وهو ألا يتزوج الأمراء وخاصة من يطمحون إلي الملك غير سيدة مسلمة لثلاثة أجيال.. بمعني أنها ولدت مسلمة وكذلك أبواها وأجدادها الأربعة. أي أنه لو ولد شخص غير مسلم واعتنق الإسلام فلا يحق للأمير أن يتزوج حفيدته. وقد التزم الملك فؤاد بهذه القاعدة عندما تزوج الملكة نازلي حيث كان الكولونيل سيف الذي أسلم ولقب بسليمان باشا الفرنساوي هو جدها من الجيل الرابع. كما التزم كافة أفراد الأسرة المالكة بذلك باستثناء الأمير أحمد فؤاد الذي تزوج عام1976 من فتاة يهودية الديانة من منطقة الألزاس بشرق فرنسا تدعي دومينيك بيكار اعتنقت الإسلام قبل الزواج مباشرة وتسمت باسم فضيلة. والغريب أنها كانت قد غيرت اسم عائلتها الأصلي وهو ليب حيث أن اسم والدها روبير ليب واتخذت اسم عائلة والدتها وهو بيكار. ولو افترضنا جدلا أن أحمد فؤاد كان ملكا لمصر وقت الزواج لما كان من الممكن أن يعقد قرانه علي فضيلة أو لاضطر للتنازل عن العرش من أجل عيونها, كما فعل إدوارد الثامن ملك انجلترا عام1936 عندما وقع في غرام الأمريكية واليس سيمسون فتنحي عن الملك للزواج منها.. وإن كنت مقتنعا أن الحب لم يكن السبب الوحيد وراء هذا القرار. أما الكلام المكرر عن أن الجنيه المصري كان أقوي من الاسترليني في عصر الملكية وأن انجلترا كانت مدينة لمصر, وغير ذلك مما يردده الكثيرون فهو حديث نابع عن جهل بالظروف التاريخية آنذاك. فقد كانت انجلترا وكل الدول الغربية الكبيرة خارجة لتوها من الحرب العالمية الثانية التي استنزفت مواردها وأنهكت اقتصادها. وكانت الدول التي لم تشارك في الحرب بل قد استفادت منها مثل مصر والمكسيك علي سبيل المثال تتمتع بعملة قوية. وعندما انطلقت أوروبا مع بداية الخمسينات في عملية التنمية الاقتصادية اكتسحت عملاتها العملات الأخري, سواء المصرية أو المكسيكية أو غيرها وانتعش اقتصادها وعاشت حقبة نمو وازدهار غير مسبوقة في تاريخ البشرية. وأنا شخصيا من أشد المعجبين بمحمد علي وأعرف دوره وفضله في بناء مصر الحديثة, كما أن بعض حكام مصر من أسرته بذلوا جهودا كبيرة في تنمية مصر وعلي رأسهم في رأيي الخديو إسماعيل.. لكن هذا لا يعني إطلاقا أن أطالب بعودة الملكية أو أتصور أنها أفضل نظام لحكم بلادي. ففرنسا عاشت أزهي عصورها في عهد الملكية وكان قصر فرساي في عصر الملك لويس الرابع عشر الملقب بالملك الشمس هو المكان الذي يحكم منه العالم كما هو الحال الآن بالنسبة للبيت الأبيض. فهل يفكر فرنسي واحد في عودة الملكية إلي بلاده الآن؟ وكانت انجلترا في عصر الملكية أمبراطورية لا تغيب عنها الشمس كما يقولون.. فهل يفكر انجليزي واحد في إعادة السلطات المطلقة للمنصب الملكي بعد أن أصبح الآن مجرد صورة ورمز للحكم؟ وقد عشت تجربة أثبتت لي أن فكرة العودة إلي الماضي غير واردة لدي الشعوب المتقدمة. فقد كنت أستأجر منزلا في باريس يملكه كونت من أصول أرستقراطية فرنسية أعدم جده الأكبر بالمقصلة في زمن الثورة. وفي يوم ضاع منا رقم تليفونه فاتصلت زوجتي بالدليل وسألت عن رقم' الكونت دي فيمون'. وكان رد فعل الموظفة الفرنسية في منتهي العنف وقد سمعت صياحها وهي تقول لزوجتي: لا يوجد شيء اسمه كونت في فرنسا.. في أي عصر تعيشين ياسيدتي؟ وتذكرت ساعتها كم نفرح ونفخر عندنا بألقاب' بك' و'باشا' إلي يومنا هذا.. فالزمن يتقدم ويتطور وكل شعوب العالم تدرك ذلك.. ونحن وحدنا نحلم بالعودة للوراء. والمفارقة هي أن كل المجتمعات تستفيد من تاريخها ومن دروس الماضي من أجل وضع أسس التقدم والنمو. أما نحن فنكتفي بأن نحلم بماضينا وكأن استحضاره في عقولنا سيجعله يعود من جديد كجلسة تحضير أرواح الأحبة الذين ماتوا وفارقونا.