طاعته التامة لأبويه في طفولته منعته عفوية التساؤل, وحرمته الحق في الخطأ إبان مراهقته, فلم يدرك اهمية الخبرات الا بعد فوات الاوان, بضياع اهم تجربتين في حياته, براءة المعرفة, وشغف التجريب! ولآخر سنواته الجامعية لم يرد لامه كلمة, ولم يعص لابيه امرا. لكن هاجس التمرد شاغله مع ثورة الشباب العالمية اواخر ستينيات القرن الماضي, وظل ينمو في وجدانه, وحين وصل الي نهائي كلية الطب تركها مؤقتا, لينضم الي فرقة موسيقية! وبعد تخرجه مارس الطب لسنوات, ثم عمل مرشدا سياحيا لفترة كانت كافية ليقدم لنا كتابا عن الفن المصري القديم, ثم درس اللغة العربية بمدارس اللغات. وفي عقده السادس اكتشف ان يومياته الوفيرة التي دأب علي تسجيلها عبر عقود, لا شيء يمكنه الاستفادة منها مثل الادب. وفي روايته الاولي كل احذيتي ضيقة رصد حالات امتثاله, التي شحنته ضد سطوة والديه, وساعده وعيه علي الافلات من معاناته النفسية وتداعياتها الخطيرة, ولم يمنعه هذا عن الانشغال بما يدور حوله, فامتزج الشأن الخاص بالهم العام في رؤية لافتة. واكسبه تنقله بين مهن مختلفة خبرات ثرية, امدته بمادة كتابين سابقين, تسكع وتأملات جوال في المدن والاحوال كتبهما برشاقة وخفة ظل وغاص عبرهما في النفس الانسانية, والواقع المعيش بتقلباته المختلفة. حول تجربته في الحياة والادب, وتجلياتها النفسية كان لنا معه هذا اللقاء: * هل من السهل علي اصحاب الخبرات الغنية في الحياة تحويل سيرهم الشخصية واليوميات العادية الي اعمال ادبية, ام يحتاج الامر لحرفية فنية لا تتوفر الا للموهوبين؟ لا أحد يعرف ان ما يكتبه له قيمة الا اذا قال له الآخرون ذلك, والثقافة تعطي التجارب ابعادا عميقة, واذكر حين كنت طبيبا ان قراءة قصص يوسف ادريس ومصطفي محمود القصيرة التي كتباها نتيجة لممارستهما مهنة الطب, جعلتني احس اكثر بمعاناة المرضي, واتذكر قصة بعنوان جبيصي مريض التي يتعرض فيها فلاح غلبان للكشف الجماعي عليه, فالاطباء الصغار يضعون سماعاتهم الطبية علي جسمه في نفس الوقت, قبل انتقال الاستاذ الي مريض آخر, فاهترأ جلده دون ان يشعر به احد, وسوء معاملة المرضي في المستشفيات المصرية كان من اهم اسباب تركي للمهنة. * كيف تمكنت من اصطياد موضوع روايتك كل احذيتي ضيقة من وسط يوميات عادية كتبتها عبر سنوات متفرقة من عمرك؟ الاستعانة بكراسات اليوميات والخطابات والصور الفوتوغرافية وما الي ذلك حيلة مشروعة وشهيرة, ولجأ اليها كثير من الكتاب, ومعروف ان كافكا كاد يحرق كراسات يومياته لولا ان انقذها احد اصدقائه ونشرت بعد وفاته كعمل ادبي, وكذلك توفيق الحكيم حين نشر خطاباته المتبادلة مع صديقه الفرنسي اندريه في كتابه زهرة العمر . * لكن ثمة فارق بين تدوين اليوميات وكتابة الادب, فكيف وفقت بينهما؟ اليوميات مادة خام يمكن لمثال ان يصنع منها منحوتة, كما يمكن لشخص آخر لا يعرف قيمتها ان يلقيها في القمامة, وتسجيل الاحداث يعيد لحظة مرت عليها عشرات السنوات, وهذا البعد الزمني يساعد علي فهم ما لم نتمكن من ادراكه ونحن صغار, وكلما عدت الي كراسات السبعينات مثلا وجدت فيها اشياء لم اتمكن من رؤيتها في حينها. * هل كنت تشعر ان في يومياتك شيئا يمكن تحويله الي عمل أدبي, ويستحق النشر؟ لم اتخيل ابدا ان ما اكتبه في كراساتي لنفسي سينشر يوما ما في رواية اسمها كل احذيتي ضيقة فمثلا قصة الحب التي ذكرتها في الرواية, بين مغنية شارع الهرم وناجي بطل الرواية هي واقعة حدثت سنة1976, وكتبتها في ثلاثين صفحة سنة1979 لاتخلص من الحاحها علي, ومعاناة ناجي النفسية في طفولته, التي استغرقت60 صفحة في الرواية كتبتها في منتصف التسعينيات عندما ترددت علي طبيبة امراض نفسية وطلبت مني ان اكتب عن طفولتي, وبقية الرواية صفحات من واقع تجارب العمل في مهن مختلفة, والوقوع في الحب, ومعاناة الزوجة الفرنسية من مرض عقلي, وهي المعاناة التي لم تتجاوز في الرواية30 صفحة, رغم انها تشغل مئات الصفحات في كراسات يومياتي, وكنت احاول التعرف علي كيفية مساعدتها علي تجنب الازمات, وسأكتب عن هذه الزوجة بإذن الله رواية مستقلة. * تسامح ناجي مع الكل والتمس لهم الاعذار في اخطائهم, هل هذا جزء من طبيعته الانسانية ام مستمد من التنشئة المسيحية؟ ناجي تسامح مع اخطاء الوالدين التربوية لانه درس علم النفس وادرك اننا جميعا ضحايا نشأتنا وتربيتنا الاولي, وتسامح حتي مع خيانة زوجته لانه درس مرضها العقلي من الناحية الطبية, وادرك انه في مثل حالتها عندما يشرف المريض النفسي علي ازمة جديدة, يكون غير مدرك تماما لما يحدث حوله, وبالتالي لا يكون مسئولا عن تصرفاته, وناجي يتسامح حاليا مع المجتمع, الذي يتطاول افراده علي الحريات الشخصية, لانه يدرك ان افراد هذا المجتمع, لم يحصلوا علي التعليم الكافي, اللازم للتمييز في هذه المسألة, بين الشخصي والعام, وان حرياتهم الشخصية مهدرة. * وضعت لروايتك كل احذيتي ضيقة , عنوانا فرعيا هو اعترافات , وهي تشترك مع كتابيك تسكع و تأملات جوال في المدن والاحوال , في انها يوميات مثقف, فما الذي يميزها عنهما؟ التأملات كانت في غالبها موضوعات عامة تتعلق بالمجتمع المصري, عبر رحلات طويلة علي الاقدام في بعض المدن المصرية, ورحلات الي بعض المدن الاجنبية في اوروبا وآسيا, ومقارنتها احيانا بالمدن المصرية, وفصوله كلها تحمل اسماء كل تلك المدن, وفيه قدر كبير من المباشرة رغم الاسلوب الروائي, اما تسكع ورغم انه كان شيئا شبيها, لكن زادت فيه كمية البوح المتعلق بمسائل شخصية, وكنت قد استعملت في كليهما شخصيتي الحقيقية باسمي الحقيقي, اما كل احذيتي ضيقة فقد تعدي في بعض فصوله خطوطا حمراء تتعلق مثلا بتابو اجتماعي هو المحظورات الاجتماعية المتعلقة بالاب والام, كأنني اريد ان اقول للشباب تمردوا علي والديكم في اقرب وقت ممكن, فإنه رغم النوايا الحسنة, لا تكون اختيارات الوالدين دائما هي افضل الاختيارات , وان اقول للآباء اعطوا اولادكم اجنحة واتركوهم يتعلمون الطيران, لانكم لو كنتم تعرفون الطيران لكنتم قد طرتم منذ زمان وهو قول مأخوذ من جارسيا ماركيز, ولاقول ذلك اخترت ان احكي بشكل غير مباشر عن كمية العذاب الذي تحمله ناجي, حتي يستطيع ان يحصل علي حريته, وان يعرف الحب بين الرجل والمرأة, وان يحقق ذاته في مهنة من اختياره.