في غمار أزمة اليونان المالية وبحث كيفية معالجتها ظهر للسطح عدد من المفارقات التي تحملها عادة الأزمات ما كان ممكنا التفكير فيها قبلها. فهناك أولا مفارقة أن الوحدة النقدية جعلت السيطرة الحقيقية في مجال السياسة النقدية في يد البنك المركزي الأوروبي ودون وجود أدني سيطرة حقيقية علي السياسة المالية, وهو ما يجعل حكومات بعض الدول الأعضاء تتجه إلي استغلال هذه السياسة المالية إلي حدود غير مقبولة من أجل الحصول علي التأييد الشعبي واستمرارها في الحكم. ففي حالة الدولة غير العضو في منطقة عملة موحدة كان من المتيسر نسبيا استخدام سعر الصرف لمعالجة الأزمة, إذ يتيح خفض سعر صرف العملة زيادة تنافسية السلع المنتجة محليا وزيادة أسعار الواردات من الخارج بما يؤدي إلي رفع القدرة التنافسية للدولة وتحقيق فوائض في موازين مدفوعاتها تمكنها من معالجة مشكلة المديونية, وبالتالي فإن وجود سياسة نقدية موحدة وبنك مركزي أوروبي ليس كافيا طالما أنه ليس هناك سياسة مالية موحدة وبالتالي لا يعود أمام أي بلد يمر بأزمة مالية وعضو في منطقة عملة موحدة سوي حل وحيد متاح في نهاية المطاف هو رفع قدرته التنافسية عن طريق خفض تكلفة الإنتاج وذلك عبر خفض الأجور بالأساس, وهو ما يؤدي إلي الإضرار أكثر بالقوة الشرائية داخل البلد ويضعف من شعبية أي حكومة. وهنا تكمن المفارقة الثانية الناجمة عن أن الحكومة الاشتراكية اليونانية التي تسلمت الحكم في أكتوبر2009 اختصها القدر باتخاذ إجراءات التقشف المالي غير الشعبية علي الإطلاق والتي أثارت موجة إضرابات واحتجاجات من قبل نقابات العمال وموظفي الحكومة والقطاع العام اليوناني الذين من المفترض أنهم ذات الجماهير أو النسبة الغالبة منهم التي منحت أصواتها للحزب الاشتراكي ليصعد إلي الحكم. المفارقة الثالثة أنه علي الرغم من وجود خطة للانقاذ فإن الثقة في كيفية تنفيذها كانت عرضة للتشكيك دوما, فبينما كان المأمول أنه بمجرد إعلان خطة الإنقاذ سيؤدي ذلك إلي تهدئة الأسواق الدولية ويحجم من حالة المضاربة السائدة, بحيث يقل سعر فائدة السندات العامة اليونانية. لكن من الناحية العملية ومع الاتفاق علي خطة للإنقاذ عبر غطاء مالي يصل إلي110 مليارات يورو( لنحو147 مليار دولار) يقدم صندوق النقد الدولي منها30 مليار يورو, بينما يقدم الباقي دول منطقة اليورو, كان من المتصور أن خطة بمثل هذا الحجم وهي تعد أكبر خطة إنقاذ مالي في التاريخ ستؤدي إلي ما تتوخاه اليونان ومنطقة اليورو من نتائج, ومع ذلك فإن الخطة بعد إقرارها بأيام قليلة ثبت أنها لم تنجح هي الأخري في تهدئة الأسواق لسببين رئيسيين كانا محل أخذ وجذب: أولهما هو أن هذه الخطة علي ضخامتها قد لا يمكنها معالجة أزمة الديون العامة اليونانية التي تبلغ نحو300 مليار يورو خلال ثلاث سنوات كما هو مفترض, وثاني هذه الأسباب أن الحكومة اليونانية سيكون من الصعب عليها جدا خاصة إذا ما استمرت حالة الاحتجاجات الجماهيرية الواسعة أن تقوم فعلا بتنفيذ خطة التقشف المالي المطلوبة منها وبحيث ينخفض معدل عجز الموازنة العامة للدولة من13.6% من الناتج المحلي الإجمالي في عام2009 إلي أقل من3% من هذا الناتج في نهاية عام2013. وفي ظل هذا الشك تصاعدت أسعار الفائدة التي يطالب بها المستثمرون لشراء سندات الحكومة اليونانية لأجل عشر سنوات لتصل في بعض الأحيان إلي أكثر من12% وهو ما يفاقم أكثر فأكثر من مشكلات اليونان المالية في حال الاعتماد علي أسواق المال العالمية لتسوية عملية سداد ديونها, ولذلك طالبت اليونان بتفعيل خطة الإنقاذ فورا لسداد نحو11.2 مليار دولار من الديون يتوجب سدادها يوم19 مايو الحالي. وقد تصاعدت الأزمة أكثر فأكثر مع اتجاه مؤسسات التصنيف الائتماني لتخفيض درجة الجدارة الائتمانية لكل من أسبانيا والبرتغال, وبحيث كثر الحديث عن العدوي اليونانية التي ستمتد إلي بقية دول منطقة اليورو التي تعاني عجوزات كبيرة في موازناتها والتي تتزايد فيها أحجام الدين العام وعلي رأسها دول مثل أسبانيا والبرتغال وأيرلندا وقدر أنه لوضع خطة إنقاذ تشمل هذه البلدان سيكون من الضروري توفير نحو500 مليار يورو. وقد تم بالفعل إنشاء آلية لانقاذ الدول الأوروبية التي تمر بأزمة مالية عبر صندوق يبلغ رأسماله750 مليار يورو( نحو963 مليار دولار) ساهمت فيه أغلب دول الاتحاد الأوروبي بنحو60 مليار يورو, وساهم فيه أعضاء منطقة اليورو بحوالي440 مليار يورو, بينما يقدم صندوق النقد الدولي250 مليار يورو. لكن حالة التردد والبطء والشكوك في كيفية معالجة الأزمة اليونانية وقبيل إقرار آلية الانقاذ الأوروبية يوم10 مايو الماضي كانت قد انعكست علي أسواق المال ليس في البلدان الأوروبية صاحبة المشكلة وحدها وإن كانت الأقسي خسارة وإنما في سائر دول منطقة اليورو والاتحاد الأوروبي ثم الولاياتالمتحدة والدول الآسيوية وبعض دول الشرق الأوسط ومن بينها مصر, إذ صارت هناك موجة من التشاؤم من أن خطط الانقاذ وما تتطلبه من خطط تقشف مالية سوف تؤدي لا محالة إلي تباطؤ شديد في النمو الاقتصادي الأوروبي وعدم القدرة علي استعادة الانتعاش الاقتصادي بسرعة كما كان مأمولا, علاوة علي الانخفاض الشديد في سعر صرف اليورو مقابل العملات الدولية الأخري وما يرتبه من توازنات جديدة وتغيرات في أسعار السلع في التجارة الدولية, ومع الوزن الكبير لاقتصاد دول الاتحاد الأوروبي حيث تمثل نحو ربع حجم الاقتصاد العالمي فإن أي تباطؤ أو ركود فيها سيؤدي لامحالة إلي انخفاض وتيرة النشاط الاقتصادي في سائر أرجاء العالم. المفارقة الأخري التي تلفت الانتباه هي أنه كان هناك في بداية أزمة اليونان توافق أوروبي علي ضرورة إبقاء المؤسسات الدولية كصندوق النقد الدولي بعيدا عن المشاركة في وضع السياسات الاقتصادية للدول الأعضاء في منطقة اليورو. ومع محاولة اليونان استغلال هذه الحساسية بمحاولة اللعب بورقة اللجوء لصندوق النقد مع تأخر وضع خطة إنقاذ أوروبية, فقد أدي هذا إلي دفع ألمانيا إلي إشراك الصندوق بالفعل باعتبار أن ذلك هو أكبر ضمانة لتحقيق أمرين مهمين: أولهما إقرار خطة تقشف مالي يونانية واسعة تكون موضع مراقبة الصندوق, وثانيهما هو التخفف من الضغوط المعنوية التي تمارسها بقية الدول أعضاء منطقة اليورو إذ كانت فرنسا ودول أخري مثل إيطاليا وأسبانيا إضافة إلي البنك المركزي الأوروبي برئاسة الفرنسي تريشيه وحتي اللحظة الأخيرة من أشد المعارضين لتدخل الصندوق, بل وانضمت إلي هذه الضغوط علي ألمانيا دول أخري مثل الولاياتالمتحدة, ولهذا فضلت ألمانيا أيضا أن يكون الصندوق حاضرا في آلية الانقاذ التي أقرتها لسائر دول منطقة اليورو في حال مرورها بأزمات مالية للتحلل من هذه الضغوط مستقبلا. ويبدو أن المراهنة علي النضوج البشري وحكمة التطور الإنساني بل والأوروبي تحديدا في الارتفاع إلي مستوي التحديات والتوقعات ببناء أوروبا الموحدة ومؤسساتها ما فوق القومية قد ثبت فشلها هي الأخري, وكانت هناك العديد من الأمثلة الواضحة علي ذلك منها بالطبع الموقف الألماني( علي المستوي الشعبي قبل أي شيء آخر) وهو ما دعا بعض كبار الاقتصاديين إلي وصف هذا الموقف باعتباره' قسوة قلب ألمانية' واضحة. إضافة إلي عزوف بريطانيا عن الانضمام إلي آلية الانقاذ الأوروبية, وهو ما أدي إلي انتقادات شديدة لموقفها من قبل دول أخري في الاتحاد الأوروبي لاسيما السويد. وأخيرا فهناك عدد من الدروس المهمة التي أوضحتها الأزمة اليونانية والتي تحتاج حقا للانتباه, ومن أهم هذه الدروس أنه مهما كانت مهارة الحكومات في إخفاء حقيقة الديون العامة أو نسبة العجز المحققة في الموازنات العامة للدولة فإن ساعة الحقيقة آتية لا محالة مع تفاقم حدة الأزمة, حتي وإن كانت الحكومة المتسببة في الأزمة قد مضت إلي حال سبيلها. والدرس الثاني المهم هو أن الموقف الحالي يستدعي ضرورة الحذر خاصة مع توقع تفاقم الدين العام في مختلف الدول المتقدمة بعد خطط الإنقاذ المالي الضخمة التي تم تنفيذها للخروج من الأزمة المالية والاقتصادية العالمية, حيث يقدر أن الدين العام في الدول المتقدمة سيبلغ نحو110% من ناتجها المحلي بنهاية عام2014. ومن المؤكد أن النظر بعمق في مشكلة الدين العام وكيفية تسويته ينبغي أن يكون موضع اهتمام شديد خاصة في ظل حالة من الشك والانتباه الدوليين فجرتهما أزمة اليونان, وهو أمر كما هو واضح ينبغي ألا يقتصر علي الدول المتقدمة وحدها.