محمد جبريل أحد كبار الروائيين المخضرمين, أثبت كفاءته العالية في السرد القصصي والروائي, والرصد النقدي الواعي للحركة الأدبية منذ السبعينيات حتي الآن. وكان له بفضل عمله في الصحافة الأدبية مبادرات في احتضان كثير من الموهوبين ورعايتهم وتشجيعهم بحس صادق وأبوة حانية. وقد تميز إبداعيا بنزعته الشعبية الصوفية, وولعه الموصول بعوالم الإسكندرية وأفقها الوضيء. وهاهو في آخر أعماله المتأنية البحر أمامها يطرح رؤيته لمحنة الترمل, وقسوة غياب الحبيب الملازم مع ارتباط الأمكنة به, وتوقف الزمن عنده. صفحة رائقة من الأدب الرفيع, لا تحفل بالأحداث الخارجية, ولا تتجاوز الفضاء الفردي لأرملة يرحل عنها الزوج دون أن يدربها علي مواجهة الواقع ومعاقرة الحياة. تزوجها صبية صغيرة بعمر ابنته, ونقلها من مدينتها الصغيرة دمنهور إلي شقته ذات السقف العالي علي كورنيش الإسكندرية, فلم تكد تبرحها وحدها حتي تركها بمفردها, وعندما عادت إليها بعد فشل محاولتها بالإقامة عند ابنتها دفعت ضلفتي النافذة, فلامست وجهها نسمة باردة امتصها الحر والرطوبة. نظرت إلي نصف الدائرة أمامها, ما بين بنايات السلسلة وقلعة قايتباي, والموج حصيرة, أضاف إلي سكونه قوارب متناثرة لا تتحرك, كأنها مفروشة في المياه, صيادو السنارة تناثروا فوق المكعبات الأسمنتية الهائلة, ينتظرون جذبه سناراتهم في المياه, ورجل يكنس الرصيف المقابل بمقشة مبلولة من ليف النخيل, وثمة شاب وفتاة جلسا علي المقعد الرخامي تعلوه المظلة الخشببة في مواجهة البحر. المقعد نفسه الذي كانت تجلس هي ومحرم زوجها إليه وعلي الرغم من مضي عقود عديدة علي مقام جبريل في القاهرة, فإن لحظات الابداع لديه تطوف غالبا حول بؤرة إلهامه في رحمها الأول عند أجواء بحري في الثغر السكندري, حيث تتكثف المواجع وتثري المشاهد ويتسع الفضاء ليعرض صفحة الروح وشجون العمر الجميل. تأخذ الأرملة الحزينة في استعادة صور عيشها الحميم في ظل زوجها الراحل فتدهشها سيطرة فكرة الموت عليه في أيامه الأخيرة, وكأنه كان يتأهب لاستقباله بترحاب, يري أن المشكلة تكمن فحسب في أن الإنسان يموت وحده, لا أحد يشاركه موته, وأنه مهما صادق الإنسان فكرة الموت لا يستطيع تصور أنه سيموت, ومع ذلك فإن الموت يظل هو الحل الوحيد لكثير من المشكلات. الغريب أنه كان عندما يدير معها يكمل أحدهما جملة الآخر, وكأنهما طرف واحد في قبضة الحياة, مع تمرسه وخبرته العاتية من ناحية, وسذاجتها المثيرة للغيظ, وبراءته الداعية إلي الإعجاب من ناحية مقابلة. وصف الحياة علي الرغم مما تحفل به الرواية من تأملات وملاحظات, فإنها ترد بضمير المتكلم, حيث تسيطر عليها رؤية الأرملة الشجية, مما يجعلها أقرب في العمر والمزاج والمنظور لصوت المؤلف الضمني, فلو كان جبريل قد كتب هذه الرواية مثلا في شبابه لاختار شخصية أخري, مثل رامي زوج ابنتها المشغول بالتقاط المال وعقد الصفقات, أو حفيدها باسم كي يقدم منظوره ورؤيته, لكنه يجعل كليهما يمر عبر مصفاة الوهج, فالأرملة نجاة تسمع عن التحولات التي حدثت في المجتمع فتعي القليل منها, ويفوتها إدراك نتائجه العملية, تسمع زوج ابنتها يتكلم عن القواعد الجديدة التي تحكم العلاقات بين الناس, حيث اختفت الجيرة والصداقة والمودة, وحل بدلا منها انتهاز الفرص والحصول علي ما قد يكون حقا علي الآخرين ازدحمت الغابة بحيوانات لم تشهدها من قبل, شراستها تفوق الوصف: زماننا الحالي يحتاج إلي فهم لأصول التعامل والتصدير والاستيراد, وتخليص الصفقات والمشروعات وقروض البنوك. لكنه عندما يلمح إلي ضيق شقته ورغبته في التبادل مع شقة حماته الواسعة علي الكورنيش يبدو في نظرها كريها متطفلا في اقتلاعها من جذورها, وتصبح هذه المشكلة هي المحور الرئيسي حيث تتمحور عندها مشاعر الجدة ومقاومتها بالرغم من ميلها للتضحية من أجل حفيدها أحيانا وبحثها عن دار للمسنين, غير أنها لا تلبث أن تتشبث بشقتها, وتظل تنصت لأخبار الحياة من حولها دون أن تشارك فيها فهذه خادمتها السابقة ورفيقتها الحالية فاطمة تسرد علي مسامعها أخبار العالم من حولها زحام المواصلات شديد, البلد كأنه يهاجر, السمك يغشه الباعة, باع الرجل فوق كوبري كرموز قشر بطيخ مغموسا في الدقيق والبيض, وسواه في الزيت علي أنه سمك مقلي, حادثة بشعة في شارع مينا البصل, عربة محملة بأنابيب البوتاجاز اصطدمت بسيارة ملاكي, احترقت السيارة بمن فيها, ولد صغير, تلميذ, بتر ترام ساقيه( تضرب نجاة صدرها بعفوية وتهتف باسم حفيدها) فهي تحاول تجسيد ما تسمعه في ذهنها, ومعني هذا أن الحياة في الرواية تتكئ تماما علي الوصف والسمع, ويتوقف تيار مرور الأحداث بحيويتها ومفاجآتها الطازجة المدهشة, ويظل الحوار المستعاد في الوعي صدي لهواجس الشخصيات فحسب. أما العرق السياسي الوحيد الذي ينبض في الرواية ويكشف عن الزمن الذي تدور فيه إلي جانب هذه الوقائع الاجتماعية المكرورة فيشرح قوقعة الأرملة ويرسم محيطها الإنساني فهو يأتي من حركة حفيدها باسم الذي يلجأ إلي شقتها هربا من ضغط أبيه وقسوته, فيحدثها عن المظاهرات التي تندد بالهجمات الإسرائيلية علي الضفة الغربية وغزة, وباستمرار حصار مقار ياسر عرفات, ويطالبون بقطع العلاقات الدبلوماسية مع إسرائيل وإدانة التأييد الأمريكي لحكومة شارون, لكن هواجس الجدة تتضخم, وتسمع أو تتخيل أصوات هجوم زوج ابنتها والجيران والبواب لينتزعوا شقتها عنوة, فتضع كل الأثاث خلف الباب وهي تدافع عن كيانها, وشبح محرم زوجها يظهر لها كي تقاوم عدوان الآخرين, في نهاية مفتوحة تترك المجال للقارئ كي يعيد بناء المواقف ويختار النهاية التي تروق له, لعمل محكم ومقتصد تتجلي فيه مهارة جبريل وحنكته الفنية. المزيد من مقالات د. صلاح فضل