ألقت زيارة الرئيس نجاد لمصر, وما شهدته من سجالات, ضوءا كاشفا, علي الانقسام الموروث في العقل المصري حيال إيران: فثمة حذر رسمي, استمر لعقود, يتشكك في نواياها ولا يجرؤ علي المبادرة حيالها. وثمة تيار فكري, ضمنه كاتب هذه السطور, طالما أكد أهمية التقارب معها, لو أرادت مصر حقا استعادة قيادتها الإقليمية, فعبر كتلة استراتيجية تضم معها إيران وتركيا يمكن لمصر تحقيق نوع من الاستقلال الإستراتيجي للمنطقة لا يعكس فقط خصوصيتها الحضارية, بل ويجسد مصالحها الحيوية, في مواجهة الهيمنة الغربية والعدوانية الإسرائيلية. وهنا يمكن الإدعاء بأن الغرب قد استثمر طويلا في إفساد علاقة البلدين, عبر الأدوات ووسائل الضغط المتاحة لما يسمي ب المركزية الغربية, والتي من خلالها تم فرض صورة سلبية علي البلد الذي كان يشهد تحولات كبري تجعله أكثر وعيا بأصالته الحضارية, وأعمق رغبة في قيادة المنطقة المشرق العربي الإسلامي نحو فلك مستقل عن النفوذ الغربي. وقد نجحت الولاياتالمتحدة تحديدا في هذه المهمة عبرآليتين متكاملتين: الأولي هي شيطنة هذا الطرف المريد لاستقلاله الحضاري. والثانية هي احتواء الطرف الآخرالذي افتقد, مؤقتا, أصالة الرؤية الحضارية أونفاذ الإرادة الإستراتيجية حتي لا يتكامل عطاؤه مع الطرف الآخر, وقد حدث هذا مرتين, وبالهام حدثين ثوريين في النصف الثاني للقرن العشرين: الأول: يخص مصر ويتمثل في ثورة يوليو ومشروعها التحرري الذي بدا نقيضا كاملا للمشروع الاستعماري الغربي وخاصة بعد حرب السويس, بينما كانت إيران الشاه قد دخلت في صداقة مع الولاياتالمتحدة, ومن ثم إسرائيل, وصارت عضوا في سلسلة الأحلاف الغربية حول الاتحاد السوفيتي, والمشروع العربي لمصر. ولذا فقد ساءت العلاقات بين البلدين في النصف الثاني للخمسينيات حتي قطعت تماما عام1960, ولم يكن صعبا آنذاك أن ترسم الآلة الدعائية الغربية صورة سلبية لمصر عبدالناصر, كما لم يكن ثمة قيد علي نفوذ هذه الصورة لدي النخبة الإيرانية الضالعة في الإستراتيجية الغربية. وعندما جاء الرئيس السادات الي الحكم, وتبني رؤية نقيضة للعالم, كان ثمة عقد من الصداقة بين البلدين ولكنه انتهي علي نحو درامي بخلع الشاه في إيران مع هبوب عاصفة الثورة الإسلامية, واغتيال السادات في مصر بفعل عاصفة إرهابية, حيث بدت المنطقة كلها وكأنها في حالة بحث متوترعن أصالتها الحضارية. والثاني: يخص إيران ويتجسد في ثورتها الإسلامية التي دفعتها الي تبني مشروع سياسي انقلابي علي السيطرة الغربية, والولاياتالمتحدة الشيطان الأكبر حيث وفرت أزمة الرهائن المحتجزين في السفارة الأمريكية بطهران مادة مثالية لصناعة صورة شيطانية لإيران أجادت الدعاية الغربية استغلالها, ولم تكن هناك مناعة مصرية ضدها فاستقرت صورة إيران السلبية في عيون النخبة الرسمية المصرية, واستمر تردد مصر في الاقتراب منه لرغبتها في البقاء ضمن الفضاء الموالي للغرب. لقد تقارب البلدان وتباعدا إذن عبر الحاجز الغربي, ووقعا في أسرصورة نمطية صاغتها الدعاية الغربية, فانقطع السبيل أمام تواصلهما, وحرم العالم الإسلامي من تشارك اثنتين من أبرز كتلة الاستراتيجية, واثنتين من أعرق حضارات العالم, ولو حدث ذلك لربما تغيرت مصائر المنطقة التي تجسد القلب الجيوسياسي للإسلام. اليوم وبعد ثورة25 يناير يبدو التواصل ممكنا, بل وتبدو القيادة المصرية أكثر اندفاعا نحوه, من دون تبصر لشرط أساسي لابد منه ليكون اللقاء ممكنا, ناهيك عن أن يكون ناجحا, وهو ضبط إيقاع الحركة علي حجم القدرة لدي البلدين, فالرؤية لابد وأن تنسجم مع الفعل, والفعل لابد أن يتسق مع القدرة, وإن ظلت هنا كمساحة أوسع للأمل فيجب أن تكون في سياق المعقول وفي إطارالممكن. فماذا يعني هذا لمصر أو يفرض علي إيران؟. يعني لمصرضرورة توسيع هامش رؤيتها لتستعيد صفاءها القديم الذي هجرته, وأن تزيد مساحة الأمل الذي فقدته, ظنا منها أن قوامها قد تقزم فلم يعد يسمح لها بالارتقاء, وأن جسدها قد وهن فلم يعد يلبي مطالب عقلها, فالمعقول لديها أكبر مما تعتقد, والممكن لها أبعد مما تتصور. ولذا يجب عليها ألا تخشي المذهب الشيعي لأنها بلد الأزهر, ولا أن تخشي الهيمنة الإيرانية لأنها كتلة استراتيجية تعادل الكتلة الإيرانية الآن, وربما فاقتها مستقبلا. ولا أن تخشي البرنامج النووي الإيراني حتي لو كان عسكريا, لأن احتمالات استخدام السلاح النووي الإيراني ضد العرب شبه معدومة, قياسا إلي نظيره الإسرائيلي, لأن عدونا المطلق هو إسرائيل, فيما إيران جار مسلم وإن اختلف المذهب, وشريك حضاري وإن أثارت الجيرة الجغرافية خلافات حول المصالح. بل ربما كان امتلاك طرف آخر غير إسرائيل لهذا السلاح هو البداية الحقيقية للتعامل بجدية مع فكرة إخلاء المنطقة منه, عبر النزع المتبادل له, إذ من دون خشية إسرائيليةمن احتمالات انتشاره, واستخدامه ضدها سوف يبقي الحديث عن إخلاء المنطقة منه محض هراء سياسي وثرثرة دبلوماسية. ويفرض علي إيران حتمية التنبه الي حكمة التاريخ التي تدلنا علي اتجاهات معقولة لدورة الأفكارتقول: كالفكرمثالي يتعالي علي الواقع, يتعرض للانحراف في لحظة تحولية ما, تتنامي عندها نزعته الصدامية, وهنا يكون فشله أكثر احتمالا, وتراجعه أكثرعمقا. ومن ثم عليها أن تتوقف عن أحلام الهيمنة الإقليمية بذريعة تصدير ثورة إسلامية هي أصلا مأزومة, أو هيمنة قومية هي في الواقع غير ممكنة, وأن تحترم ليس فقط حقيقة أن مصر حقيقة حضارية راسخة, وكتلة استراتيجية كبري, بل وأيضا كونها مسئولة أخلاقيا واستراتيجيا عن الكتلة العربية المتحلقة حولها, ومن ثم احترام خصوصية العالم العربي, وأمن الخليج, فمن دون ذلك سيتعذر لقاء البلدين وتنهدم الجسور بينهما. ختاما نقول: ربما تعاني مصر راهنا من حال انحسار, فيما تشهد إيران حالة انتشار, غير أن الحركة الصحيحة نحو المستقبل تفرض علي مصر أن تخطو بطموحها إلي الأمام لتبلغ قامتها الحقيقية, كما تفرض علي إيران أن تنكص بطموحها إلي الخلف لتتسق مع حجمها الواقعي, فتنضبط لدي كلتيهما مساحة الرؤية علي القدرة, والحلم علي الفعل, فيكون التلاقي ممكنا عند تلك النقطة الحرجة علي مفترق حركة التاريخ, ويبدأ السير الآمن نحو المصير المشترك خروجا من فلك المركز الغربي المهيمن, باتجاه قيادة عالم الإسلام الواسع. المزيد من مقالات صلاح سالم