أحدثكم عن ابني.. منحة الروعة واللوعة التي وهبها الله لي, صرة البهجة التي حملها لي سرب من طيور السنونو ذات ربيع, الذي بفضله استحققت عن جدارة أجمل وأشقي ألقاب الأرض! ابني الذي وخزني بركلاته الصغيرة في ظلمات ثلاث, ثم أيقظت صرخاته الرفيعة أمومتي الكامنة داخلي, الذي عذبتني كل سنة من أسنانه اللبنية وهي تشق لثته الوردية, الذي خفق قلبي مع كل عثرة له في خطواته الأولي, الذي علمته الأحرف وكيف يمسك بالقلم ويتلو فاتحة الكتاب عن ظهر غيب, وأن يتهلل: أكبر.. أكبر كلما رفع الأذان أو زغردت الأجراس. ابني الذي عذبه وعذبني معه واجب الرياضيات والدراسات والكيمياء وحفظ أبيات الشعر الجاهلي, الذي ردد أغاني عبدالحليم في انتظار طلة بنت الجيران, وتبادل المحاضرات مع زميلته في الجامعة, وذهبت لأخطب له شقيقة صديقه! ابني الذي هرع ليريني مفردات أول مرتب له, وحمل إلي رضيعه لأكبر في أذنه اليمني أشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول اللب وعيسي رسول الله.. ابني الذي وهبته لأرض الوطن من المحيط إلي الخليج, وظننت أني أعده ليسير علي درب الناصر صلاح الدين في تحرير القدس فاستدرجتموه ليحرر ميدان روكسي.. ابني الذي تربص بالفرنساوية حاملا نبوته في حارات القاهرة وألقي قنبلة يدوية خبأها في رغيف بلدي علي جنود الإنجليز في القناة, ورفض تسليم سلاحه للجنرال الإنجليزي وحاصره وتصدي بصدره للعدوان الثلاثي, وانهمرت عليه القنابل والقذائف وهو يتلقي دروسه في مدرسته الابتدائية أو يعمل علي ماكينته في المصنع. ابني الذي أجبره الصهاينة هو ورفاقه في السلاح أن يحفروا قبورهم بأيديهم ثم دفنوهم أحياء في سيناء, ابني الذي أهداني نصره ثم تركته يموت مطعونا بسلامكم وانفتاحكم. ابني الذي لفظ أنفاسه مرات تلو مرات تحت أنقاض مساكنكم التي لم تكن سكنا, وتناثرت أشلاؤه وحطام طائرتكم في المحيط الأطلسي, وتفحم جسده في قطاركم, والتهمته عبارتكم وأمواج البحر الأحمر وأسماكه, وأغرقته قوارب هجرتكم غيرالشرعية يأسا في البحر الأبيض المتوسط, واحترق في مسرحكم, وسقطت علي بيته صخرة جبلكم. ابني المجند البسيط الذي استشهد علي حدودكم قبل أن يبلل صيامه بقطرات ماء ولم أعرف قاتله بعد كي أنهش كبده.. ابني قاريء القرآن الحافظ لكلام الله الذي دهم قطاركم حافلة مدرسته فتناثرت أشلاؤه الصغيرة مع أوراق كتاب الله علي القضبان..ابني الذي تلقي رصاصات غدركم وهو يعالج مريضا في مستشفي ميداني أو يحمله زملاؤه علي أكتافهم في محمد محمود, أو ذهب لمدرسته أو عمله أو لمشاهدة مباراة كرة قدم ولم يعد, ابني الذي أطل من النافذة, أو خرج إلي الشارع, أو ارتفع صوته أو دافع عما يؤمن به فلم يعد حيا.. لا يهمني فصيلته وانتماؤه السياسي, كل ما يعرفه قلبي إنه ابني مثلكم. ابني الضابط والمجند والمهندس والطبيب والموظف والإعلامي والمدون والناشط والحقوقي ورجل الدين والعامل والمرشد السياحي والجامعي وطالب الثانوي والمتظاهر من أجل مسلمي ميانمار أو أنبوبة البوتاجاز أو لتر سولار أو برلمان حر أو رغيف نظيف. هو ابني الذي تحرشتم بزوجته وسحلتموه علي أرضه وجردتموه من ملابسه وكشفتم عورته وعوراتكم أمام وكالات أبناء العالم, ولم تكفكفوا دمعه أو تضمدوا جرحه.. ابني الذي صوبتم نحوه بنادقكم وقذفتم عليه أحجاركم وسددتم إلي صدره رشاشاتكم وركزتم عدساتكم وميكروفوناتكم علي إنسانيته فلم يخاطبكم إلا بكلام الله: ا لئن بسطت إلي يدك لتقتلني ما أنا بباسط يدي إليك لأقتلك إني أخاف الله رب العالمين.( المائدة28) ابني الصعيدي والسواحلي والريفي والحضري الذي يطيب لي أن أسمعه يناديني باسمي بكل لهجاته.. ابني الذي يموت كل يوم, وأموت معه وله.. ثم أولد بميلاده كل يوم جديد. ابني الذي تشبه ملامحه ملامحكم ويتحدث لغتكم ودماؤه هي دماؤكم, ابني الذي هو بكم ولكم وأنتم, حرمت دماؤكم عليه حتي يبوء بإثمه وإثمكم.. هذا هو ابني.. فمن أنتم؟ المزيد من مقالات د .كرمة سامي