كنت في طريقي الي ليبيا في اليوم الذي صدرت فيه جريدة الشروق يوم الجمعه الموافق الثالث والعشرين من أبريل2010, وقابلت في الطائرة الأصدقاء الدكتور يحيي الجمل والاساتذة جمال الغيطاني ومحمد سلماوي وخيري شلبي وسعيد الكفراوي والمخرج محمدالخولي وغيرهم من الأصدقاء. وأخبرني بعضهم أنهم أطلعوا علي جريدة الشروق, قبل خروجهم من المنزل فهم من هواة الاستيقاظ مبكرا, وقالوا لي إن هناك صفحة كاملة من الردح الثقافي يصفني بها علاء الأسواني بما لايليق, وقالوا لي بعض الجمل التي تدخل في صنف ماينزل بمنزلة قائله, فقلت لعل علاء الأسواني غضب جدا من كشفي لكذبه في مقالي افتراء كاتب مصري بمناسبة تكريم فرنسي وتعبيري عن رأيي النقدي في ظاهرة انضمامه الي قائمة الروايات الرائجة الأكثر توزيعا ومبيعا, ووصوله الي مايقرب من القمة فيها. ولا يزال رأيي علي ماهو عليه, من أن الشهرة أو ارتفاع أرقام التوزيع( حتي لو وصلت الي أرقام فلكية) ليست عاملا حاسما في قياس القيمة الإبداعية, وليست علامة علي عبقرية إبداعية دائما, ولو كان الأمر كذلك لوضعنا روايات علاء الأسواني علي ذري الأهرام الإبداعية وأنزلنا روايات أمثال نجيب محفوظ وخيري شلبي وفتحي غانم ويوسف إدريس وبهاء طاهر وجمال الغيطاني وأمثالهم الي قرارة القرار من القيمة نفسها, ولكن الأمر علي النقيض من ذلك تماما, فالأصل في القيمة الإبداعية هو تحقق معايير يعرفها النقاد, ويقيسون بها منزلة الأعمال الإبداعية, كي ينزلوا كل واحد منها المنزلة اللائقة. وقلت لزملائي: فلنتمتع برحلتنا والصحبة الجميلة التي تجمعنا, ولنؤجل ردح الأسواني الي حين عودتنا الي الوطن سالمين. وبالفعل تمتعنا بالرحلة, واستمعنا الي حكايات عمنا يحيي الجمل عن المرة الأولي التي ذهب فيها الي ليبيا ليعمل قاضيا في مدينة فزان سنة1955, وظللت الي جواره نتبادل الاحاديث. وشرق الحديث وغرب, وإذا بنا في مطار طرابلس, دون أن نشعر بساعات الطيران, ونمضي الي قاعة كبار الزوار ليستقبلنا الإخوة الليبيون الذين فرحوا بنا, وخرجنا بصحبتهم, وانقضت أيام ليبيا كالحلم البهيج, وعدت الي القاهرة, فذكرتني زوجة ابني بجريدة الشروق التي شغل فيها الأسواني صفحة كاملة علي هيئة حوار, نثر فيه درر اتهاماته التي أثارت ابتساماتي, فما كنت أتصور أن يصل به الانفعال الي أن ينزل بدرك الحوار الي هذا الحد. وبعد أن قرأت الردود العدائية التي تنزل برتبة قائلها, وتسيء اليه قبل غيره, وجدت شخصية الأكاديمي تغلبني, وأقرر أن أتعامل مع الردود غير الصديقة بوصفها عينة لانحدار الخطاب الثقافي بوجه عام, فهو خطاب يشبه غيره من أنواع الخطابات التي أصبحت تتسم بالعنف القمعي والتسرع الي رمي الآخر بكل نقيصة, وتذكرت أبيات أمل دنقل عن العقل الذي جن, وأصبح هدفا لصبية يقذفونه في الطرقات, وتحتجزه الحكومات بتهمة الخيانة الوطنية. والمؤكد أنني لن أتبادل وعلاء الأسواني حدة بحدة, أو انفعالا بانفعال, أو شتائم بشتائم, فهذا أمر لايليق بي, خصوصا أن عقلي أكاديمي بطبعه, لاينفعل بسهولة, ويؤثر التحليل علي التخليط, ويميل الي رد النتائج الي أسبابها, والظواهر الي مثيلاتها, فهذا هو الأجدي لكل من له إدراك سليم. ولكني قبل أن أتابع حوار الأسواني لابد لي من الاعتراف بأن التقديم المنسوب الي جريدة الشروق قد صدمني, وهو تقديم لا علاقة له بمن قام بالحوار, وهو ابني هشام أصلان الذي أخبرني أنه ليس كاتب التقديم. والحق أنه تقديم لايشرف جريدة الشروق التي أحترمها, ولا أزال أري نفسي واحدا من كتابها. فما وصف به التقديم ما كتبته من ملاحظات عن علاء الأسواني بأنه نيران غير صديقة قول يخلو من الإنصاف, أما الزعم بأن هذا الذي كتبت يأتي ضمن حملة تنهال نيرانها علي علاء الأسواني منذ أن أعلن تأييده لمشروع الدكتور محمد البرادعي للتغيير والإصلاح الدستوري في مصر فهو الحمق بعينه. ولو كان كاتب هذه الكلمات الكاذبة يقرأ ما أكتب, أو يعرف ما أقول ماكتب ترهاته, فأنا من أكثر الناس احتراما للبرادعي, ومن المعجبين بأخلاقه ومواقفه, خصوصا أنه رجل يعرف أقدار الآخرين, ولاينطق بما يعيبه. وليت بعض الذين ينتسبون إليه, حقا أو باطلا, يأخذون من أخلاقه وآداب حواره وصدق منطقه مايصلح من معوج أقلامهم ومواقفهم, وفيهم لحسن الحظ من أتبادل وإياهم كل احترام وتقدير. وها أنذا أكتب في الاهرام واثقا من أنه لن يحذف من كلامي أحد, إنني ضد مواد الدستور التي فصلها ترزية القوانين بما يسيء الي الأماني الديمقراطية للشعب المصري, وإن مستقبل مصر هو في تأسيس مباديء حوار عقلاني متكافيء بين الحكومة والمعارضة. ولا أزال أري أن الخطأ خطأ, سواء اقترفته الحكومة أو المعارضة. وغير خاف أن كلا الطرفين فارقه التعقل, فدخلنا في فوضي عنف الاتهام المتبادل الذي لايقوم, قط, علي احترام حق الاختلاف بوصفه الحق الطبيعي للفكر والضمان الوحيد لازدهار الأمة وتقدمها, ولايمكن أن نتهم كل شيء بالباطل لأننا معارضون, ومن العبث أن ندافع عن الحكومة, حتي لو كنا نعمل بها, إذا أخطأت, فكلا الفعلين لايستحق الاحترام. والأكثر تأثيرا في معالجة هذا الموقف هي المواجهة العقلانية الصريحة لكل ماهو باطل أو فاسد, وتحليل خطاب هذا وذاك, حتي في انحداره, بما يفرض معيار القيمة دون مواربة. وغير خاف علي العقلاء من حملة الأقلام أن الأصل في الديمقراطية هو ممارسة حق الاختلاف في خطاب متحضر. ولكننا نعيش في زمن يعادي هذا الحق الطبيعي, فنحن ننتسب الي ثقافة لاتؤمن بهذا الحق فعلا لا قولا, والي سلطة سياسية لاتنفر من شيء قدر نفورها من الاختلاف عنها أو معها, مع أن الاختلاف رحمة, وأعين مضافة لمن يبحث عن الحقيقة, ويتطلع الي رؤيتها من مناظير متعددة تجعل الرؤية أشمل وأعمق. وللأسف, فإن قمع الاختلاف يقع علي المقموعين فيعكسونه كما تعكس المرأة الضوء الواقع عليها فيقوم المقموع بممارسة القمع علي غيره الأدني منه في بنية المجتمع التراتبي( البطريركي) أو علي نظيره المقموع مثله, فتنشأ تراجيديا المقتولين القتلة التي حدثنا عنها صلاح عبدالصبور في شعره, خصوصا في إشارته الي زمن الحق الضائع الذي لايعرف فيه مقتول من قاتله ومتي قتله. وأعتقد أن قمع الحوار في كل مستوياته, وكل مجالاته, هو المسئول عن انحدار الخطاب الثقافي العام وشيوع درجة غير مسبوقة من العنف اللغوي في موازاة العنف السلوكي, وهبوط مستويات التخاطب الي أدني درك, والي حال من الإسفاف التي شاهدنا أمثلتها في عراك أحمد شوبير مرتضي منصور الاعلامي, وسباب الجزائر إعلاميا من حمقي الصحافة والفضائيات بعد مباراة مصر والجزائر, فضلا عما تحمله كثير من الصحف كل يوم من أحكام هي أقرب الي السباب, وآراء هي أبعد عن التعقل وآداب الحوار. لا فارق في ذلك للأسف بين مؤيدي الحكومة بالحق والباطل ومعارضي الحكومة في كل أفعالها مهما كانت, فأصبحنا نعيش في فوضي من الاتهامات التي لايرد عليها أحد, والإشاعات التي لانعرف وجه الحق فيها. وليست هذه هي الديمقراطية التي نحلم بها, ولانزال نتطلع إليها, آملين في عالم أفضل يتوازن فيه العدل الاجتماعي والحرية الكاملة لا الفوضي الغالبة. المزيد من مقالات جابر عصفور