هل هناك اقتصاد إسلامي؟ وما هي معالمه الأساسية؟ هذه أسئلة كبيرة, ولن تكون الإجابة عليها سهلة. ومن الممكن, بل من الطبيعي, أن تختلف الإجابة عليها بحسب تخصص الكاتب والزاوية التي ينظر من خلالها إلي الموضوع. فإجابة المتفقه في العلوم الشرعية قد تختلف عن رؤية الباحث في التاريخ الاقتصادي مثلا. وغني عن البيان أن ما أحاول أن أقدمه في هذه المقالة القصيرة سيكون من خلال نظرة اقتصادي اكتسب خبرته العلمية في إطار المفاهيم النظرية التي استقرت لدي الاقتصاديين. وسوف يكون من المصلحة أن نستكمل هذه الرؤية بآراء أخري من أصحاب تخصصات أخري قد لا تقل أهمية. وأبدأ بالقول بأن العلوم الاجتماعية, وبوجه خاص علم الاقتصاد, لا يتناول حقائق طبيعية كما هو الحال في العلوم الطبيعية مثل الفيزياء أو الكيمياء أوالبيولوجيا والتي تتعلق بظواهر طبيعية لا تختلف من عصر إلي عصر, فهو علم اجتماعي يتأثر بما لحق المجتمعات البشرية من تطور خاصة من ناحية الفن الإنتاجي السائد وشكل التكنولوجيا المستخدمة ووسائل الاتصال, وكذا التطور السكاني ومدي كثافته وانتشاره. وإذا كان علم الإقتصاد يتناول كيفية تدبير الناس لمعاشهم من حيث الإنتاج ووسائله وكيفية توزيعه, فمن الطبيعي أن نتوقع أن يتطور هذا العلم مع تطورهذه الأساليب الإنتاجية. فمفهوم علم الاقتصاد في مجتمع بدائي يعتمد علي اللقط والقنص يختلف عنه في مجتمع رعوي يعيش علي التنقل والترحال عبر مساحات شاسعة بحثا عن الكلأ. وهذا يختلف بدوره عن مجتمع زراعي مستقر, اكتشف مفهوم الملكية العقارية كما استعان الإنسان بطاقات الرياح والأنهار والحيوان لتسهيل عمليات النقل ورفع المياه, وصاحب معظم تلك المجتمعات تسخير الإنسان نفسه في شكل من أشكال الرق للقيام بالأعمال الشاقة. وقد تغير كل هذا مع الثورة الصناعية واكتشاف طاقة البخار ثم الكهرباء وأخيرا البترول والغاز والطاقة النووية وغيرها. وفي كل هذا إنتقلت البشرية إلي مرحلة جديدة من التطور وصاحبها أشكال إنتاجية غير معروفة مسبقا, ومعها ولد علم الاقتصاد الحديث نفسه. ومنذ الثورة الصناعية انقلبت الأحوال وتغيرت طبيعة الاقتصاد وظهرت أمور جديدة لم تكن معروفة سابقا أو تطورت وتعمقت علي نحو غير مألوف. وليس من السهل تلخيص أهم هذه التغيرات في عبارات موجزة. واكتفي بالإشارة إلي بعض أهم هذه المظاهر الجديدة. ولعل أهم هذه المظاهر هو أن المجتمعات الصناعية أصبحت تعيش علي التغيير المستمر في شكل أدوات الإنتاج كما في الأذواق, وذلك بعكس المجتمعات التقليدية السابقة التي كانت تعيش في ظل أوضاع مستقرة رتيبة تكاد لا تتغير لآلاف السنين. كذلك فعلي حين كان العمل هو العنصر الحاسم في الإنتاج وفي التقدم الاقتصادي, فإذا بنا نعيش في عصر الصناعة حيث أصبح العنصر الحاكم للتقدم هو رأس المال الإنتاجي من آلات وأدوات أو تقدم علمي. وقد استتبع ذلك أن ظهرت أهمية التكوين الرأسمالي بمعني الاستثمار في بناء قاعدة إنتاجية متقدمة بناء علي آخر تطورات التكنولوجيا المتاحة. وقد ترتب علي ذلك أن احتل موضوع الإستثمار مركز الصدارة في تقدم الأمم كما تطور دور الدولة الاقتصادي. ومع زيادة الحاجة إلي الاستثمار وتعاظم الأموال المطلوبة لهذه الاستثمارات واستحالة أن يوفرها شخص أو أشخاص قليلون, فقد كان من الطبيعي أن يقوم بتدبير هذه المدخرات عدد هائل من الأفراد من أجل توظيفها في عدد محدود من المشروعات الكبيرة. ولذلك ظهرت الأسواق المالية التي توفر أدوات مالية من أسهم وسندات وأوراق تجارية وخيارات وغيرها والتي تسمح بتجميع هذه المدخرات الهائلة ووضعها تحت تصرف المستثمرين. وفي هذا الإطار, فإن النقود نفسها, لم تعد سوي عنصر في منظومة متكاملة من الأصول المالية التي يسيطر علي إصدارها المؤسسات المالية. وهكذا, فإن التقدم المذهل الذي ولد مع قيام الثورة الصناعية, لم يكن ممكنا دون ثورة اقتصادية أخري في شكل ثورة مالية بظهور الأسواق المالية وما تتضمنه من أدوات مالية متعددة للاستجابة لظروف المدخرين ومتطلبات المستثمرين. ومع بروز أهمية الإدخار والاستثمار, وكلاهما يتعامل مع المستقبل, فقد كان من الضروري ظهور مفهوم التفضيل الزمني ووجود مقياس اقتصادي للتعبير عن قيمة الحاضر بالنسبة للمستقبل. وارتبط التعامل مع المستقبل ببروز مفهوم المخاطر ونظريات الاحتمالات وأهمية المعلومات ونظريات اتخاذ القرار. والآن نعود إلي تساؤلنا المبدئي, هل هناك اقتصاد إسلامي معاصر؟ وهل يصلح للعصر الحديث ما عرف من ترتيبات إقتصاديةفي ظل الدولة الإسلامية والتي استمرت منذ القرن السابع وازدهرت منذ القرن التاسع حيث تسيدت العالم, ثم بدأت في التراجع منذ القرن الثالث عشر مع سقوط بغداد, وإن استعادت بعض عافيتها, رغم سقوط الأندلس, مع الدولة العثمانية منذ القرن السادس عشر والتي تراجعت بعد ذلك بقرنين. الحديث عن الاقتصاد يتطلب الإشارة إلي جانبين أساسيين. هناك جانب مبدئي يمثل البنية الأخلاقية للنشاط الاقتصادي من حيث بواعث النشاط والهدف منه والقيم التي تحكمه. ولكن هناك أيضا جانب فني يمثل الأدوات والمؤسسات والسياسات اللازمة للنشاط الإقتصادي. فأما عن الجانب الأخلاقي للنشاط الاقتصادي فأن تعاليم الإسلام تدعو إلي احترام المباديء الضرورية للنجاح الاقتصادي, وفي مقدمتها إعلاء قيمة العمل, وأهمية الصدق والأمانة في المعاملات وحرمة المال والوفاء بالعهود وضرورة كتابة وتوثيق التعهدات. وقد ولد الإسلام في بيئة للتجار, وعمل الرسول, عليه السلام, بالتجارة. وقد كرم الإسلام التجارة التي فيها تسعة أعشار الرزق بل كان يقوم بها أشرف الناس. وقد لعبت دولة الإسلام دورا هاما في التجارة الدولية بين الشرق الأقصي وأوروبا وعن طريقها عرفت أوروبا بعض الصناعات مثل صناعة الورق. كذلك فإن الإسلام يعلي من قيمة العمل الدنيوي ولا يري تعارضا بينه وبين العمل للآخرة. فلم يعرف الإسلام حياة الرهبان أو العزوف عن الحياة. فالعمل عبادة. اعمل لدنياك كأنك تعيش أبدا, ولآخرتك كأنك تموت غدا. وكان الخلفاء علي فهم ووعي كامل بتطور الأزمان, وأن ما يصلح لوقت قد لا يصلح لوقت آخر. ومن المعروف عن الخليفة عمر بن الخطاب, رضي الله عنه, أنه أوقف صرف سهم من الزكاة للمؤلفة قلوبهم, رغم ما ورد عنها من نص قرآني, ورأي أن الإسلام وقد قويت شوكته واشتد عوده لم يعد بحاجة إلي مجاملتهم. كذلك فإن عمر نفسه خرج علي المألوف من سنة الرسول, عليه السلام, في توزيع غنائم الحرب علي المحاربين, عند فرضه الخراج علي أرض العراق بعد فتحها تعزيزا لدولة الإسلام, وكرر نفس الشيء عند فتح مصر. وإذا كانت مباديء وقيم الإسلام الأخلاقية تساعد علي دعم أي نظام اقتصادي ناجح, فهل تتضمن تجربة الدولة الإسلامية من الأدوات والأساليب التي تسمح بالتعامل مع التطورات الاقتصادية المعاصرة؟ رأينا أن أهم ما يميز الاقتصاد المعاصر هو أنه نتيجة للثورتين الصناعية والمالية. وقد أسس علم الاقتصاد الحديث كنتيجة للمشاكل والقضايا التي أفرزتها هذه التطورات التكنولوجية والمالية. فعلم الاقتصاد المعاصر هو ظاهرة حديثة ليس لها سوابق تاريخية. فليس في التاريخ الإسلامي ما يسمح بتوفير سوابق تاريخية للتعامل مع الأسواق المالية أو السياسات المالية والنقدية, أو مع مظاهر الاستثمار الحديث. وأخيرا, وليس آخرا, فإن دور الدولة لم يجاوز في التاريخ الإسلامي دور الدولة الحارسة( جيش, شرطة, قضاء) بلا مسئولية عن التنمية والاستقرار الاقتصادي أو العدالة الاجتماعية. فهذه كلها مفاهيم حديثة وليدة المجتمع الصناعي. البنية الإخلاقية للاقتصاد الإسلامي تظل صالحة لكل عصر, أما الأدوات والمؤسسات والسياسات فهي تتغير مع الظروف. وكما أنه من العبث أن يحاول سياسي معاصر أن يجد حلولا لمشاكل الأسواق المالية أو السياسات المالية والنقدية في كتب الفقه أو التراث. والله أعلم. المزيد من مقالات د.حازم الببلاوي