أجري الحوار ذ: لا يحفل الروائي السوداني أمير تاج السر, المقيم في الدوحة, كثيرا بالمعوقات, فهو يؤمن بأن الكتابة موجودة في كل زمان ومكان, في عهد الحرية وفي أزمنة القمع. ويري كذلك أن الثورات العربية غيرت نمط الكتابة الأدبية. الشعر كان الهاجس الوحيد لأمير تاج السر حتي أواخر ثمانينيات القرن الماضي, وحين كتب الرواية بعد ذلك, أحس بأنه عثر علي قميص يسع الفنون كلها, ومن ثم ارتداه مرتاح الضمير. أما الطب, فهو دراسته الأكاديمية البحتة, ومهنته التي يحبها ويعمل فيها حتي الآن. مع صاحب روايات كرمكول وصائد اليرقات والعطر الفرنسي ورعشات الجنوب, دار هذا الحوار, عقب إشرافه( مع الروائية العراقية إنعام كجه جي) علي المشاركين في ورشة إبداع ندوة2012, التي نظمتها أخيرا في أبو ظبي الجائزة العالمية للرواية العربية( البوكر العربية). حدثنا عن ورشة الإبداع التي شاركت فيها أخيرا. وعن جدواها, وعن دور الجوائز العربية في تحفيز الحركة الإبداعية ؟.. - كانت هذه هي المرة الثانية التي أشرف فيها علي الورشة الإبداعية السنوية الخاصة بالجائزة العالمية للرواية العربية بوكر, كانت الأولي برفقة الزميلة منصورة عز الدين, والثانية برفقة الزميلة إنعام كجه جي. والحقيقة انها تجربة خصبة جدا, هنا لا نتعامل مع كتاب مبتدئين, لكن مع كتاب شقوا طريقهم بالفعل, وما علينا سوي استخدام خبرتنا في الكتابة, واستخدام ما اكتسبوه من خبرة, للارتقاء بالعمل الإبداعي. هذه الورش مهمة جدا, وسعيد بأنها بدأت تنتشر, الفرق أن الجائزة العالمية تتيح عزلة تامة في جو مشحون بالإبداع, وفي مكان آسر, وبالتالي ما علي الكاتب إلا أن يتخفف من أعبائه اليومية ويأتي ليبدع فقط. وبالنسبة لجائزة البوكر العربية, فمن الطبيعي جدا أن تثير الجدل مثلها مثل أية جائزة, هناك من يرون أنفسهم يستحقونها ولا تذهب إليهم, وحقيقة لا أعرف آليات التحكيم, لكنني أتصور أن الأمر يعتمد بشكل أو بآخر علي تذوق المحكمين ورؤيتهم الخاصة للأعمال المقدمة. شخصيا لو كنت محكما فسأتبع رؤيتي الخاصة من دون تدخل للعواطف. عموما أشجع مثل هذه الجوائز, وأتمني انتشارها كمحفز كبير علي الإبداع في زمان قل فيه الاحتفاء بالمبدع. بدأت بالشعر, ودرست الطب, وانطلقت في الرواية. حدثنا عن تلك التفاعلات, ولمن الغلبة يا تري؟ - الشعر كان هاجسي الوحيد حتي أواخر الثمانينيات من القرن الماضي, وقد وصلت فيه إلي درجة جيدة كما أعتقد, لكن حين كتبت الرواية بعد ذلك, أحسست بأنني عثرت علي قميص يسع الفنون كلها, ومن ثم ارتديته. الآن لا أكتب الشعر إلا داخل الرواية, وقد أستخدم لغة شعرية كاملة في الحكي, من دون أن تخل به. أما الطب فهو دراسة أكاديمية بحتة, أكملتها بآلية تامة, وأحببت مهنتي التي أعمل فيها حتي الآن, وهي مهنة جيدة وجاذبة, وأيضا أتاحت لي حياة سهلة, وعرفتني بكثير من شخوص رواياتي. تعيش الثقافة العربية في هذه المرحلة تحديات كبري وسط آمال عريضة بقطاف الحرية وجني الثورات وحصادها المأمول من جهة, ومخاوفمن الملاحقة والترصد والتضييق من السلطة وطيور الظلام من جهة أخري. كيف تري حاضر تلك الثقافة ومستقبلها ؟ - الكتابة موجودة في كل زمان ومكان, ولا تكترث كثيرا بالمعوقات, دائما ما تجد أشخاصا يكتبون, كان ذلك في زمن الحرية أو زمن القمع, فالكتابة تبتكر حيلها لتنجو, وحتي لو نجت من الكبت والتضييق, فهي مستمرة. لقد قرأنا أعمالا مجيدة في أزمنة كانت فيها الكلمة مراقبة ومكبلة, وسنقرأ أعمالا مجيدة أخري فيما يأتي من أيام. الثورات غيرت من نهج الكتابة كما أعتقد, ما كان مقيدا انفلت, ومازلنا في طور البداية لنري آعمالا كبيرة في هذا الخصوص. أما ما يروج عن مخاوف بشأن الكتابة في ظل حكومات جديدة تنتهج نهجا مغايرا, فلا أساس له من الصحة, ولا تنس أن هذه الحكومات منتخبة, وبالتالي فإن بقاءها في السلطة مرتهن باتباعها النهج الديموقراطي, والكتابة مشمولة في هذا النهج. ماذا أضافت الثقافة إلي الثورات العربية؟ وماذا أضافت الثورات إلي الثقافة؟ - الثقافة أداة فاعلة ومحركة, بوصفها فعلا تنويريا, وأري أن المثقفين كان لهم دور كبير في التنوير والتبشير بالثورات, وأيضا دعمها بصورة أو بأخري, لكن مع ذلك يظل هذا الدور محدودا حين يبتعدون عن إدارة الأمور الثقافية في بلادهم. الثورات غيرت نمط الكتابة الأدبية بلا شك, وستسعي لتغييره أكثر نحو الأفضل, فقط لنأخذ الأمر بلا تعجل. وقد ذكرت في إحدي مقالاتي أنني أخاف من الانفلات الكتابي, أن يصبح كل من حمل لافتة في ميدان التحرير, مكتوبة عليها عبارة ارحل روائيا, وكل من دخل السجن, حتي لو مصادفة, كاتبا يسجل يومياته بلا موهبة! أكرر أننا يجب أن نتروي, ونقرأ الأحداث قبل أن نقر بأن الكتابة تحسنت بالفعل. الكلمة: محور ثابت, أم أنها قد تدور مع الزمن والأحداث؟ - الكلمة لا تتغير, لكن الزمن هو الذي يتغير, والأحداث السياسية تأتي وتعبر وتظل الكلمة في مكانها, هي دائما شامخة, ودائما ما يوجد من يكتبون في أي زمان, فقط ما أرجوه هو أن ترتقي الكلمة لتواكب تغير الأحداث. هل يروق لك تعبير الظلاميون الذي يطلق علي بعض التيارات المتشددة؟ وهل هم ظلاميون فعلا؟ - في ظل وجود الديموقراطيات, لابد من تعدد الأفكار والأيدولوجيات, المتشددون يعتبرون المنفتحين منحلين, والمنفتحون يعتبرونهم ظلاميين وقمعيين. علينا أن ندير حوارا هادئا مع بعضنا البعض, وأعرف كثيرا من المتشددين دينيا, يقرأون الروايات ويستمتعون بها. لنجعل الكلمة رزينة, ولنبتعد عما يخدش الحياء العام, وما يسيء للعقائد تحت ثوب التحرر والرأي الشخصي, وسنكسب مشجعين من كلا الطرفين. شخصيا لا ألوم الذين ينتقدون العري والعبارات الخادشة, أو السوقية التي ترد في كثير من الكتابات. بالنسبة لي شخصيا لم أتعرض لهجمة من متشدد, ذلك أنني أفعل الرقيب الداخلي لي أثناء الكتابة, وقد التقيت بكثير من المتشددين الدينيين, قرأوا رواياتي وأعجبتهم. طغيان الواقع بنبرته السياسية الزاعقة.. ألا يمثل تهديدا للفن؟ - لا أعتقد أن الفن يفسد بطغيان الأحداث, وعلي الكاتب أن يجتهد ليخرج من كل شيء بفن جيد, أقول بكل قناعة إن الكاتب أو الشاعر أو الرسام, ممن يملك موهبة حقيقية وثقافة حقيقية, يستطيع أن يملأ الفراغات في أي وقت. والسياسة الدعائية لا تنتج فنا أصيلا, فالموهوب يولد موهوبا ولا يكتسب موهبته من كونه قد نشط سياسيا, كل ما يكتبه هؤلاء( علي منابر الخطابة) لا يتعدي كونه أدبا مستهلكا. إلي أي مدي تكترث بعبارات مدحك أو انتقادك؟ - لقد أتيت من بلد متعدد الثقافات والأعراق, بلد آفرو- عربي, لذلك تجدني أكتب بطريقة مختلفة, شيء من هنا وشيء من هناك, هذا نوع من الكتابة التي تعجب البعض ولا تعجب البعض الآخر, لكنها كتابة. أنا لا أكترث كثيرا بعبارات مدحي أو ذمي, لكن أكتب لأنني مصاب بجرثومة الكتابة. إبداع عندي حالات هستيريا تصيب الكاتب في وقت ما, وتنقشع في وقت آخر, لا يكون الكاتب كاتبا في أي وقت. هل تقتضي خصوصية المبدعانعزاله أحيانا أو تحليقه بمنأي عن الجموع؟ - المبدع في رأيي إنسان عادي, ليس بالضرورة منعزلا في كل الأوقات, وإلا فلن ينتج شيئا. الكتابة بالرغم من أنها تنتج في لحظات العزلة, إلا أنها وليدة الاحتكاك المستمر مع الآخرين. الأفكار ليست عند الكاتب وحده, ولكنها موجودة في مجتمعه, وعليه انتزاعها بمصاحبة المجتمع, شخصيا أفعل ذلك باستمرار, وحين أعثر علي نصي, أغيب في عزلة لأكتبه. أما الذين يعتقدون بأن الكاتب أرقي من المجتمع, وعليه أن يحلق بعيدا ليكتب, لا أعتقد أن لكتابتهم طعما. المبدعون السودانيون ومثال لهم الطيب صالح والفيتوري وأنت يطلون علي المشهد العربي كدرر مشرقة مغايرة, لكن علي المستوي الكميلا نجد أسماء كثيرة لاقت ذلك الصدي المأمول. أين تكمن المشكلة؟ - فيما مضي كانت المشكلة كبيرة, مشكلة بلد منعزل في ثقافته وعدم انفتاحه علي الآخر دائما, مشكلة الإعلام غير المنصف, ودور النشر محدودة العدد ووسائل الطباعة غير الجيدة. الآن وفي عصر التكنولوجيا الحديثة, ما عاد الذي كان خافيا كذلك, فنجد أسماء كثيرة في الشعر والرواية بدأت تشرق في الوطن العربي, وأيضا ترجمت الأعمال إلي لغات أخري. الإنترنت أتاحت لقاء كل الثقافات ببعضها البعض, أما الانتشار كما حدث مع الطيب والفيتوري ومعي شخصيا فهو أمر آخر, قطعا سيحققه المبدعون السودانيون قريبا.