رئيس ضمان جودة التعليم: الجامعات التكنولوجية ركيزة جديدة فى تنمية المجتمع    إتاحة الاستعلام عن نتيجة امتحان المتقدمين لوظيفة عامل بالأوقاف لعام 2023    قطع المياه عن نجع حمادي.. وشركة المياه توجه رسالة هامة للمواطنين    الحكومة: نرصد ردود فعل المواطنين على رفع سعر الخبز.. ولامسنا تفهما من البعض    «حماس» تصدر بيانًا رسميًا ترد به على خطاب بايدن.. «ننظر بإيجابية»    محامي الشحات: هذه هي الخطوة المقبلة.. ولا صحة لإيقاف اللاعب عن المشاركة مع الأهلي    رونالدو يدخل في نوبة بكاء عقب خسارة كأس الملك| فيديو    أحمد فتوح: تمنيت فوز الاهلي بدوري أبطال أفريقيا من للثأر في السوبر الأفريقي"    هل يصمد نجم برشلونة أمام عروض الدوري السعودي ؟    حسام عبدالمجيد: فرجانى ساسى سبب اسم "ماتيب" وفيريرا الأب الروحى لى    هل الحكم على الشحات في قضية الشيبي ينهي مسيرته الكروية؟.. ناقد رياضي يوضح    محامي الشحات: الاستئناف على الحكم الأسبوع المقبل.. وما يحدث في المستقبل سنفعله أولًا    مصارعة - كيشو غاضبا: لم أحصل على مستحقات الأولمبياد الماضي.. من يرضى بذلك؟    اليوم.. بدء التقديم لرياض الأطفال والصف الأول الابتدائي على مستوى الجمهورية    32 لجنة بكفر الشيخ تستقبل 9 آلاف و948 طالبا وطالبة بالشهادة الثانوية الأزهرية    استمرار الموجة الحارة.. تعرف على درجة الحرارة المتوقعة اليوم السبت    اعرف ترتيب المواد.. جدول امتحانات الشهادة الثانوية الأزهرية    صحة قنا تحذر من تناول سمكة الأرنب السامة    أحمد عبد الوهاب وأحمد غزي يفوزان بجائزة أفضل ممثل مساعد وصاعد عن الحشاشين من إنرجي    دانا حلبي تكشف عن حقيقة زواجها من محمد رجب    الرئيس الأمريكي: إسرائيل تريد ضمان عدم قدرة حماس على تنفيذ أى هجوم آخر    "هالة" تطلب خلع زوجها المدرس: "الكراسة كشفت خيانته مع الجاره"    حدث بالفن| طلاق نيللي كريم وهشام عاشور وبكاء محمود الليثي وحقيقة انفصال وفاء الكيلاني    أبرزهم «إياد نصار وهدى الإتربي».. نجوم الفن يتوافدون على حفل كأس إنرجي للدراما    مراسل القاهرة الإخبارية من خان يونس: الشارع الفلسطينى يراهن على موقف الفصائل    عباس أبو الحسن يرد على رفضه سداد فواتير المستشفى لعلاج مصابة بحادث سيارته    "صحة الإسماعيلية" تختتم دورة تدريبية للتعريف بعلم اقتصاديات الدواء    ثواب عشر ذي الحجة.. صيام وزكاة وأعمال صالحة وأجر من الله    أسعار شرائح الكهرباء 2024.. وموعد وقف العمل بخطة تخفيف الأحمال في مصر    العثور على جثة سائق ببورسعيد    الأمين العام لحلف الناتو: بوتين يهدد فقط    سر تفقد وزير الرى ومحافظ السويس كوبرى السنوسي بعد إزالته    نقيب الإعلاميين: الإعلام المصري شكل فكر ووجدان إمتد تأثيره للبلاد العربية والإفريقية    كيف رفع سفاح التجمع تأثير "الآيس" في أجساد ضحاياه؟    "حجية السنة النبوية" ندوة تثقيفية بنادى النيابة الإدارية    ضبط متهمين اثنين بالتنقيب عن الآثار في سوهاج    «الصحة»: المبادرات الرئاسية قدمت خدماتها ل39 مليون سيدة وفتاة ضمن «100 مليون صحة»    وكيل الصحة بمطروح يتفقد ختام المعسكر الثقافى الرياضى لتلاميذ المدارس    وصايا مهمة من خطيب المسجد النبوي للحجاج والمعتمرين: لا تتبركوا بجدار أو باب ولا منبر ولا محراب    الكنيسة تحتفل بعيد دخول العائلة المقدسة أرض مصر    للحصول على معاش المتوفي.. المفتي: عدم توثيق الأرملة لزواجها الجديد أكل للأموال بالباطل    القاهرة الإخبارية: قوات الاحتلال تقتحم عددا من المدن في الضفة الغربية    «القاهرة الإخبارية»: أصابع الاتهام تشير إلى عرقلة نتنياهو صفقة تبادل المحتجزين    «ديك أو بط أو أرانب».. أحد علماء الأزهر: الأضحية من بهمية الأنعام ولا يمكن أن تكون طيور    الداخلية توجه قافلة مساعدات إنسانية وطبية للأكثر احتياجًا بسوهاج    ارتفاع الطلب على السفر الجوي بنسبة 11% في أبريل    «صحة الشرقية»: رفع درجة الاستعداد القصوى لاستقبال عيد الأضحى    وزير الصحة يستقبل السفير الكوبي لتعزيز سبل التعاون بين البلدين في المجال الصحي    مفتي الجمهورية ينعى والدة وزيرة الثقافة    الأونروا: منع تنفيذ برامج الوكالة الإغاثية يعنى الحكم بالإعدام على الفلسطينيين    الماء والبطاطا.. أبرز الأطعمة التي تساعد على صحة وتقوية النظر    «الهجرة» تعلن توفير صكوك الأضاحي للجاليات المصرية في الخارج    رئيس الوزراء الهنغاري: أوروبا دخلت مرحلة التحضير للحرب مع روسيا    «حق الله في المال» موضوع خطبة الجمعة اليوم    بمناسبة عيد الأضحى.. رئيس جامعة المنوفية يعلن صرف مكافأة 1500 جنيه للعاملين    السيسي من الصين: حريصون على توطين الصناعات والتكنولوجيا وتوفير فرص عمل جديدة    الحوثيون: مقتل 14 في ضربات أمريكية بريطانية على اليمن    أسعار الفراخ اليوم 31 مايو "تاريخية".. وارتفاع قياسي للبانيه    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



الكلمة العربية في عيدها العالمي
نشر في الأهرام اليومي يوم 22 - 12 - 2012

الكلمة الناطقة بالعربية احتفل بها مليار ونصف مسلم عربي في يومها العالمي في الثامن عشر من ديسمبر الجاري‏..‏ كلمة تنطقها اثنان وعشرون دولة و‏423‏ مليون لسان‏..‏ يوم عالمي لأعرق لغات الأرض التي تتوقد حياة مادامت لغة الملايين الذين يصلون بها ويكتبون ويقرأون كلماتها.. وإذا ما كانت فرنسا قد سن فيها قانون أخير يمنع استخدام أية لغة أخري غير الفرنسية في المحافل الدولية واللافتات وأسماء الشوارع والميادين وقوائم الطعام ونشرات الأدوية ووسائل المواصلات والمطارات والبنوك وجميع التعاملات الحكومية والمراسلات العالمية, وحتي الأفلام أصبح لابد من دبلجتها جميعا لتنطق بالفرنسية ليغدو الحب علي جميع المستوياتamour وليس بLove, وقد نجد فرنسا في ذلك فلتة بينما تراه هي شيئا طبيعيا وبدهيا وأمرا مسلما به لعقيدتها بأن عدم احترام اللغة من قبيل العار, ومن هنا يمنع تعليم أية لغة أخري غير الفرنسية للنشء حتي المرحلة الابتدائية لتتم عملية نقش اللغة علي أمخاخ الصغار مع تجويد الخط وكتابة الحرف الواحد آلاف المرات بأشكاله ومواقعه في أول الكلام وفي أواسطه علي مدي السنوات الخمس الأولي, فلا تجد فرنسيا يكتب بخط نبش الفراخ, ولا تقرأ خطابا فرنسيا وكأنه روشتة طبيب مصري للعلاج, ولا تقع علي كلمات فاقدة النطق والموقع, ولا التي يهبط سطرها ليشرب من البحر... و..مثل القرار الملزم في فرنسا بمنع اللافتات المكتوبة بغير الفرنسية اللغة الأم والأب والجد وأبوالجد والتاريخ والجغرافيا والتراث, فإن لدينا منذ سنوات ضاربة في العمق قرارا مماثلا بالمنع لكنه يندرج في قائمة قراراتنا التربوية التي تنام ويشد عليها الغطاء داخل الأدراج, ولقد مكثت أسبوعا كاملا في غدوي ورواحي للعمل أحاول استيعاب الكلمة بلس المكتوبة بالعربية وليست اللاتينية في الإعلان المنتشر بكثافة الذي يحمل اسم سلعة جديدة علامتها الجودة وبعدها تأتي تلك البلس لتقطع السرد المحفز, ثم من بعدها علي الناحية الأخري وصفا جديدا مثل أنها طعمة.. و..فجأة تزول الغشاوة عن مخي لأدرك أن هذه البلس ما هي إلا دلالة علي علامة الزائد+ أي أيضا, لكنها كتبت تبعا لما هو سائد بالإنجليزية.. و..ما أن يجود الله علي صغيرنا بالنطق حتي نريده انجليزي الوصف والتعبير: بابي إيه يا ماجد؟.. بابيDonkey.. ويشرق وجه السيد الوالد الحمار من الغبطة مادامت الكلمة الإنجليزية تابعة للغة التي يهفو أن يتقنها المحروس كي تفتح له الأبواب, فالمستقبل مدهون بالإنجليزية بعدما أصبح خريج مدارسها هو من عليه العين, ولم يعد المواطن المصري يشعر بقيمته إذا ما تكلم لغته بينما يستعيد شخصيته إذا ما نطق بالإنجليزية.. لغته وحدها أصبحت تشعره بالعار والدونية وسط الجماعة المتعاملة بالإنجليزية, وفي بلدنا توزن ثقافة المرء وأهميته بقدر صحة نطقه وكتابته الإنجليزية.. حتي الطبيب أصبح يشرح المرض ويصف الدواء للمريض القادم بعبله من الأرياف بالإنجليزية, فيسأله من بعدها الغلبان: يعني يعني أنا عيان بإيه يا دكتور؟!!.. ويدافع البعض بأن هناك كلمات إنجليزية قد أصبحت متداولة ومن صميم اللغة مثل زووم وويك إند وتوك شو ومول وعقاب الصغير لأنه نوتيnaughty ولابد أن يقضي حاجته في البوتpot الخ.. و..أصبحت أرثي لبواب العمارة الريفي البسيط بعدما أصبح يتيه بكلمة الموافقة بالإنجليزيةOkey التي استساغها علي لسانه يضمها ويفردها لترفعه حسب ظنه قدرا عن بقية حراس المدخل, يرددها علي أي طلب أو تأنيب أو حتي تهديد يؤثر علي استقراره في وظيفته, وعلي تحية الصباح والمساء حتي خشيت أن تنسدل الأوكي أيضا علي رد السلام عليكم!
ليس لكي أرتقي أن أدوس علي لغتي وأتعلق بأذيال لغة أخري, لكن المهزوم دائما مولع بتقليد الغالب, ونحن عندما انهزمنا حضاريا وسياسيا انهزمنا أيضا لغويا, وكان ولابد من الدخول في الإطار الأجنبي نطقا وتعليما وتعاملا ومظهرا, ومن هنا حق علينا ما قاله الفقيه ابن حزم في زمانه الممتد إلي زماننا بمعارفه ورؤيته المستقبلية من أن اعوجاج اللسان علامة علي اعوجاج الحال.. ولكن.. ولكن قد تقع اللغة بكلماتها في شباك اللغة الأخري مما يقال عنه الامتلاء, وعلي سبيل المثال فقد دخلت أجروميتنا كثير من الكلمات التركية مثل أودة, وشركة, وشنطة, وشراب, وسفرة الخ.. وفي هذا من المفيد إدراك أن أفضل ما أنتجه الفكر البشري لم يكن من إنتاج أمة بمفردها بمعزل عمن سواها, إنما نتاج زواج فكري؟... ألم يبدع الفكر العربي عندما اطلع علي الثقافة اليونانية؟... ألم يصبح أكثر ثراء بأعمال المولدين للغة في الدولة العباسية؟.. ألم يبلغ قمة حضارته في الدولة الأندلسية؟ ألم يستفد توفيق الحكيم من الأدب اليوناني ومن أسطورة بجماليون ليطرحه طرحا جديدا في أدبه, أو استفادة فولتير في قصائده من شخصية النبي محمد صلي الله عليه وسلم؟.. والمجتمع الفرنسي ألم يثمر أفضل ثمراته عندما داخله الفكر الإنجليزي ورومانتيكيته, والفكر الألماني وصوفيته, والفكر الإسباني ووجدانيته؟! إنه زواج الفكر العالمي, وليس طلاق اللغة الوطنية.. ومن يتهرب من كلماته العربية الآن عليه استعادة قوله تعالي: إنا أنزلناه قرآنا عربيا لعلكم تعقلون, وقوله في قرآنه: إنه لتنزيل رب العالمين نزل به الروح الأمين علي قلبك لتكون من المنذرين بلسان عربي مبين إلي آخر الآيات الكريمة التي تبين عربية كلمات القرآن الذي أجمع العلماء علي أن كلمة القرآن إنما تنصرف إلي نصه العربي المحفوظ إلي يومنا هذا.. وقديما ذكر النقشبندي في كتابه صبح الأعشي في صناعة الإنشاء الشروط الواجب توافرها في الكاتب, ومنها إحاطته باللغة العربية وكلماتها مع الصرف والنحو والبلاغة والفقه وحفظ القرآن والأحاديث ومعرفة الأنساب والقبائل والشهور والسنين والأفلاك والأنهار والجبال ولسان العرب والعجم.. ولا أي من هذه الشروط المطروحة أصبحت مطبقة للأسف في زماننا غير الجميل الذي غلبت العامية فيه علي الكلمة المقروءة والمسموعة والمغناة, وكانت حجة البعض بأن الأديب يحيي حقي ذات نفسه قد استخدم العامية في كتاباته رغم هوسه بالفصحي, وكانت حجته هو في ذلك قوله: أثناء إقامتي الطويلة في أوروبا كان أكثر ما أحن إليه في مصر هو أحياؤها الشعبية القديمة التي أسمع في أزقتها كلمات( إجرنها) و(يا دلعدي) وأعايش تلك الروح الشعبية الصابرة التي حاولت تصويرها في( قنديل أم هاشم).. يحيي حقي هنا استدعي العامية الراقية في مكانها الصحيح لكنه أبدا لم يتنازل عن الفصحي, حتي حدث في مرضه أن زاره نجيب محفوظ ليسأله: إيه أخبار الكلي يا يحيي؟.. فسارع المريض مصححا: اسمها الكلي يا نجيب!!
السؤال الذي يطرح نفسه الآن في يوم العربية العالمي أنه وإذا ما كانت مجامع جمع مجمع اللغة العربية قد نصبت نفسها حارسة للغة الضاد ناطقة بقوانينها راعية لانتشارها مفسرة لغموض بعض نصوصها قائمة علي تراثها مقربة لهجاتها, فتلك المجامع تحديدا في حاجة إلي حركة تحديث وتطوير وعصرنة في بنيتها الثقافية ومناهجها ونظرياتها, فلماذا لا تغدو بمثابة أكاديميات كما حدث في الغرب تتفتح علي الحداثة والعصر, وتفتح أبوابها أمام اللغويين الجدد الذين تشبعوا من الثورات اللغوية الحديثة التي شهدها العالم. لماذا تصر مجامعنا العربية علي النعاس والهلضمة والبرطمة وكلتاهما فصحي كما جاء في قاموس لسان العرب بمعني العبوس والغيظ في أقبية المحافظة والتقاليد والأصالة, فهذه المجامع إن هي حدثت نفسها في مهمة صيانة اللغة والحفاظ عليها, وتصفيتها من الشوائب الدخيلة, وحمايتها من الغزو الأجنبي, بذكاء, بداية بتطوير قواعد اللغة العربية وتبسيطها صرفا ونحوا سوف تصالحها علي الأجيال الجديدة, وتحول دون نفورها منها وامتثالها للزحف اللغوي الأجنبي وتصاعد ثقافة الإنترنت.. إن مهمة المجامع ارتداء ثوب الحداثة بلا عودة لاستبدال كلمة الساندوتش إلي شاطر ومشطور وبينهما طازج, ولا التليفزيون إلي التلفاز ولا الراديو إلي المذياع, ولا الثلاجة إلي المبرد ولا الأوتوبيس إلي الحافلة, ولا الكمبيوتر إلي الحاسوب, وإنما تغدو ابنة العصر وسليلة الثورات اللغوية الحديثة التي تهيمن الآن علي وسائل التواصل والاتصال, ولعلنا جميعا الآن نلحظ للأسف تسرب العامية إلي أدبنا وصحفنا هروبا من أسر وتعقيدات قواعد النحو والصرف وجمع المؤنث السالم الذي يفتح بالكسرة.. وإذا ما كان الاحتفال الآن باليوم العالمي للغة العربية كما أسمته منظمة اليونسكو, فلتبدأ معه الانطلاقة لتغدو كلمات اللغة العربية عالمية كما حدث في كل اللغات الحية في العالم, فاللغة هي الحياة والإنسان, ولا يمكنها أن تظل أسيرة التقليد والانغلاق, وحان للكلمة العربية أن تخرج من حصارها لتطل علي العالم تحتل حيزا واسعا بين لغات شعوب الأرض, مع العلم بأننا لسنا وحدنا في مصر الذين أصبحنا ضيوفا علي اللغة في البيت والدرس والمكتب والكراسة, فالمشكلة عربية عامة, فأنت الشريد التائه المضلل المنبوذ علي أرض مطارات العرب, في غابة اللافتات التي خاصمت العربية, وعندما احتفلت المغرب كمثال بمرور خمسين سنة علي استقلالها عن فرنسا ألقيت جميع الخطب والكلمات بالفرنسية, هذا بينما في وسط آسيا يطلقون علي الحرف العربي الذي يشكل حروف القرآن الحرف الشريف!!
وفي لغتنا العربية الحديثة كلمات ليست كالكلمات مثلما جاء من وحي نزار أن قليلا من الكلام نقي وكثيرا من الكلام بغاء.. الكلمة الآن تنعي اللغة القديمة والكتب القديمة ومفردات كلامنا المثقوب كالأحذية القديمة, ومفردات السب والهجاء والشتيمة, ونهاية الفكر الذي قاد إلي الشروخ وإلي الهزيمة... وخلاصة القضية التي توجز في عبارة أننا لبسنا قشرة الحضارة والروح جاهلية.. وكلمتنا الآن للصحاب: جربوا أن تكسروا الأبواب, أن تغسلوا أفكاركم وتغسلوا الأثواب, جربوا أن تقرأوا كتاب, أن تكتبوا كتاب, أن تزرعوا الحروف والأعناب, أن تبحروا إلي بلاد الثلج والضباب, فالناس يجهلونكم خارج السرداب, الناس يحسبونكم نوعا من الذئاب!!.... الكلمة تتساءل: ما الذي نكتب يا مصر؟! نحن محكومون بالموت إذا نحن صدقنا, ثم محكومون بالموت إذا نحن كذبنا, ما الذي نكتب يا مصر؟ نحن لا نملك أن نحتج, أو نصرخ, أو نبصق, أو نكشف عن خيبتنا, أو نتمني, أخرستنا هذه الأيام التي من غير معني... الكلمة تأمرنا بأن نقطع الثدي الذي من خيره نحن رضعنا, فاعتذرنا, ووقفنا ضد كل القاتلين وبقينا مع مصر الوسطية التي علمتنا الغناء وأهدتنا الكتابة والكلمات... الكلمة للصغار وللذين سوف يولدون, عندما نادتنا مصر, لم يبق فلاح علي محراثه إلا وجاء, لم يبق طفل يحبو إلا وجاء, لم يبق سكين ولا فأس ولا حجر علي كتف الطريق إلا وجاء ليرد قطاع الطريق, ليخط حرفا واحدا, حرفا بمعركة البقاء... الكلمة التي لم تعد تجدي في جلودهم الميتة الإحساس, وأرواحهم التي تشكو من الإفلاس, وسؤالنا اللامجدي لهم بهل؟ هل نحن مازلنا خير أمة أخرجت للناس؟!.. من أين تدخل الكلمة الحرة يا تري والشمس فوق رؤوسنا سرداب, نار الكتابة أحرقت أعمارنا فحياتنا الكبريت والأحطاب. ما وجع الكتابة؟! ما الرؤوس؟! أولي الضحايا هم الكتاب يمشون فوق ورق الخريطة خائفون, فعلي الخريطة أصبحنا كلنا أغراب, من ذا يصدق أن مصر تهودت, إن جاء كافور فكم من حاكم قهر الشعوب وتاجه قبقاب!... الكلمة كرة مطاط يقذفها الحاكم من شرفته للشارع, ووراء الكرة يجري الشعب ويلهث الطفل الجائع!.. الكلمة في الشرق العربي أراجوز بارع يتكلم سبعة ألسنة ويطل بقبعة حمراء, ويبيع الجنة للبسطاء, وأساور من خرز لامع, ويبيع لهم فئرانا بيضاء وضفادع!... الكلمة إبرة مورفين يحقنها الحاكم للجمهور من القرن السابع... الكلمة قم قم يا طويل العمر من حجرتك الوردية وافتح شبابيكك للشمس وللعدل وللرعية فما رآك الشعب من آخر أيام بني أمية, اخرج إلي الشارع واقرأ ولو صحيفة يومية غير قومية!!... الكلمة يا بلدي الطيب, يا بلدي الطيب ذبحتك سكاكين الكلمات, كلمات نتعلم منها كيف يغني الغارق من أعماق البئر, نتعلم كيف يسير علي قدميه القبر, الكاتب مخصي الكلمات, وما أشقي خصيان الفكر.... الكلمة.. مازلنا أصحاب الكلمة نلهو بالصرف وبالإعراب, يطأ الإرهاب جماجمنا, ونقبل أقدام الإرهاب, نركب أحصنة من خشب, ونقاتل أشباحا وسراب, وننادي يارب الأرباب أنت الغفار التواب, ما عاد لأعصابي أعصاب فصلاح الدين من الأسلاب, ونسمي أنفسنا كتاب!!... الكلمة سؤال: متي سترحلون؟! المسرح انهار علي رؤوسكم والناس في القاعة يشتمون ويبصقون ويسألون: متي سترحلون؟! إنا إلي الله لراجعون... الكلمة نرددها خلف الإمام, ندور كالجثة في مسبحة الإمام, لا عقل لا رأس لا أقدام, نجلد كل جمعة بخطبة غراء, ونبتلع البيان والبديع والهراء, ونسكن في طاحونة ما طحنت قط سوي الهواء!... الكلمة حين يصير الحرف فيها أفيون يمنعه القانون, ويصبح التفكير جريمة يطالها القانون, حيث يصير الناس في المدينة ضفادعا مفقوءة العيون, حين يصير الدمع في المدينة أكبر من مساحة الجفون, يسقط كل شيء, الشمس, والنجوم والجبال والوديان, والليل والنهار, والبحار والشطآن, ويموت كل شيء, يموت كل شيء, الماء والنبات, والأصوات والألوان, وتهاجر الأشجار من جذورها, وينتهي الإنسان, ويهرب من مكانه المكان!!!
الكلمة قضية تتساءل عن جدوي الكلمة في زمن ينأي بنفسه عن القراءة, وتتحول فيه الأقلام يوما بعد يوم إلي سلعة كمالية لا رغبة لأحد فيها, ويتحول المثقفون إلي طبقة معزولة لا حول لها ولا قوة؟!.... الكلمة قال عن كاتبها القدماء: أدركته حرفة الفقر فاتجه للكتابة... وكلمة من الكلمات تلتصق بالذهن مدي العمر كثيرا ما ترد إلي أذنيك, وتجدها فجأة قد انبثقت من غياهب الماضي واستحضرت نفسها حتي علي شفتيك فترددها, وتشملك رعدة خجل من نفسك وكأنها الرعدة الأولي التي أصابتك حين سمعتها أول مرة, وكلما تذكرتها, تذكرتها كاملة, نفس النغمة والطريقة التي قيلت بها!!
الكلمة حكاية ورواية تصل إلي هدفها عبر القرون واللغات والسدود والحدود والقلاع والممالك والأوطان, والكلمة الهامسة تدوي, والكلمة الصاخبة تهمد, والكلمة الدامية تنفق, والكلمة السكين تصيب في مقتل, والكلمة البركة تفتح أبواب الجنة, والكلمة قالها محمد فأسلم الكفار... الكلمة آهات: آه من الحب, وآه من شدة الوجد وآه من ألم الضرس وآه من المفتري وآه ممن لم يرد السلام.... الكلمة يقولها القلم واللسان والرمش وضغطة اليد وهزة الرأس وهلة الطلعة وتقطيبة الجبين وتجعيدة الأنف وابتسامة الثغر ورقرقات الدمع وشريان توتر علي أرضية الجبهة.... الكلمة قبلة علي أستار الكعبة.... الكلمة مطاطة تطرقها تلغيها تلوكها تصدرها تستوردها تعليها تنكسها تترجمها تضغطها تحبطها تعبدها تخنقها تريقها تستنزفها تذبحها تطببها تشجعها تقتلها ترميها, تدفنها في سابع أرض, تسافر بها في مقعد طائرة, تسجنها خلف القضبان, تصحبها صغيرة في يدك, تخاطر بها في غابة وحوش, تهبط بها للقاع, تصعد بها لقمة جبل, تشبكها في عروة جاكيت, تقبلها قطعة خبز وتضعها بجوار الجدران, تشيد لجثمانها هرما, تذروها مع الريح رمادا فوق النهر, تتركها جثة للغربان, توسدها أضلع القلب, تجعلها نجمة سيارة, تنكسها رايات خسارة.. وفي كنوز الكلمة العربية معارف تجعل من مجرد الفتحة والكسرة والضمة الفارق في المعني بين السماء والأرض, فهناك الهناء بفتح الهاء بمعني السعادة, والهناء بكسر الهاء بمعني الزفت والقطران, والمناخ بفتح الميم بمعني حالة الجو وبضم الميم بمعني مكان راحة الإبل, وجناح بفتح الجيم بمعني جناح الطائر, وجناح بالضمة بمعني الإثم أو الذنب, وهناك فارق بين الهم والغم, فالأول توجس لقدوم المصيبة, والثاني أن المصيبة قد وقعت بالفعل!!
و..من الكلمات كلمة تري الحاضر سوادا والماضي بياضا ناصعا, وتري فكر الأمس هو الفكر, وأخلاق الأمس هي الأخلاق.. والمعارض ليس خائنا ولا جاسوسا, والعلماني ليس ذيلا للغرب والدستور ليس برنامج حزب, والبطولة لا توجد بلا جو عام تلعن فيه اللابطولة.... و..الكلمة.. الباب.. جاءت في نداء صلاح عبدالصبور: يا حاج علي لا تنس أن تغلق باب المكتب, أن تغلق باب الشقة. أن تغلق باب المبني. أن توصد أبواب مدينتنا بالضبة والمفتاح. هذا زمن لا يصلح أن نكتب فيه الكلمات, أو نتأمل, أو نتغني أو حتي نوجد, يا حاج علي أغلق كل الأبواب, أغلق. أغلق. أغلق!!... الكلمة.. العربة.. التي شبه بها هيكل الدولة المصرية الآن بأنها عربة طائشة بلا فرامل, وبأنها علي حافة المنحدر, ورأي يوسف إدريس أنها بعد وقوعها سيظل البقية من الناجين يقفون حولها منتظرين معجزة أن تنصلح العربة من تلقاء نفسها, ولما يطول بهم الانتظار وفروغ الصبر, سيبدأ كل منهم يسعي إلي خلاصه المفرد, ويأخذ له قطعة غيار أو صامولة, أو حتي يخلع عجلة القيادة ويمضي بها إلي أقرب تاجر مسروقات لبيعها, وبثمنها يمتطي أي شيء, وينجو, ويبقي من لم يستطع أو بغبائه عن أن يترك قومه المصابين ويمضي ناجيا بنفسه وتبقي معه ومعهم العربة وقد أصبحت كومة من الحديد الخردة!!... الكلمة.. الاستشهاد.. الغزاة هذه المرة قادمون من الداخل وليس فيهم قلب أسد واحد وإنما هم قلوب نعام وذئاب وكلاب, يستشهد الشباب حربا مغلوطة, حربا مجرمة لأنها حرب من الاتجاه الخاطئ للهدف الخاطئ, حرب الصديق للصديق, حرب الجار للجار, حرب الإخوة المصابين بلوثة, وكأنهم يعانون من مرض خبيث وراثي.... الكلمة.. الزمام.. قد أفلت الزمام, ولم يعد أحد يستطيع وحده أن يصنع شيئا مهما قال أو كتب أو فعل, الحريق الأعظم بدأ, وجهنم قبل ميعادها انتصبت يوم يفر المرء من أخيه وأمه وأبيه وصاحبته وبنيه ودولته التي تأويه ولم تعد تمنحه الأمان.... الكلمة.. الأحزان.. الحزن ليس علينا بغريب, إنه دمنا ولحمنا وطعامنا وشرابنا, نحفظه ونرعاه ونعتنقه ونحتفظ به ونحنطه كما نحفظ ونقدس التراث, لكن الحزن هذه المرة ألمحه وقد أخذ سواده الفحمي يتحول إلي جمرة نار بعدما جمعنا أشلاء الصغار من فوق قضبان القطار.... الكلمة التستر.. التغطي ببعض الأعمال الشرعية والمشروعة للإضرار بالمؤمنين والذين اتخذوا مسجدا ضرارا وكفرا وتفريقا بين المؤمنين وإرصادا لمن حارب الله ورسوله من قبل وليحلفن إن أردنا إلا الحسني والله يشهد إنهم لكاذبون.... الكلمة.. الاستعداد.. لن نخاف أو نتوجس, فنحن بعد لم نعد أطفالا, الحرب حاربنا, التاريخ صنعناه, وكم من فرعون خالفناه وعادوناه ثم أمتناه وبكينا عليه, كل شيء فعلنا وكل شيء نفعله ومستعدين أن نفعله, انفتاح مستعدين, نظام مستعدين, فوضي مستعدين وتمام يا فندم, يسار در ندور, يمين در ندور, وسط در ندور, فوق وتحت در ندور, شقلبة تشقلبنا, جدعنة تجدعنا, مرمطة تمرمطنا, تصحيح صححنا, شد أحزمة شددنا, نكسة انتكسنا, رقص رقصنا و..ثورة ثرنا.. كل شيء فعلناه وكل شيء كنا مستعدين أن نفعله.. ولكن.. أبدا غير مستعدين بعدما قمنا بثورة أن يخطف الثائرون من بيننا من ميدان الثورة من الذين سرقوا الثورة, وتاجروا بشهداء الثورة!!
و..تظل هناك كلمات جنائزية تسللت من الباب الخلفي لتاريخنا لتشكل بقعا سوداء علي صفحة أجروميتنا البيضاء منها الكلمات: التحصين, اللهو الخفي, والفلول, الجبن المثلثات, ودورات المياه, ولازم حازم وقيد أنملة, والتوك توك, وقاض ليس بقاض!!
المزيد من مقالات سناء البيسى


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.