مظلومون هم محدودو الدخل في مصر, أو إن شئت الدقة مهدودي الدخل, فقد هدته نار الأسعار, والتهمه غول الغلاء الفاحش, إن محدود الدخل يفكر ويقدر كيف يعيش حياة كريمة بدخل غير كريم بالمرة يكاد لا يفي بمتطلباته الأساسية وحاجاته الضرورية. ولا يكفي حتي لأجرة المواصلات, ويكاد ينطبق عليه المثل الشعبي تجيبها كده تجيلها كده هي كده. كيف أعيش؟ بهذا السؤال يتوجه الموظف الغلبان إلي المجلس الأعلي للأجور, الذي يحدد الرواتب من برج عاجي, دون أن يكلف نفسه عناء مشقة كيف يعيش هؤلاء المطحونون في الأرض. ماذا تفعل لو كنت مكاني؟ هكذا يسأل الموظف المهدود الكادح البنك الدولي الذي حدد حد الكفاية اللازم لإعالة شخص واحد في العالم الثالث بنحو3 دولارات يوميا, أي لأسرة مكونة من5 أفراد ب85 جنيها يوميا, يعني في الشهر2550 جنيها, جدير بالذكر أن60% من الشعب المصري حسب إحصاءات وزارة المالية يتقاضون رواتب أقل من500 جنيه, وهذا يعكس نسبة الفقر الكبيرة التي تصل الي52% حسب تقرير الجهاز المركزي للمحاسبات. مبروك عبد الرحيم محمد, عامل بوزارة الأوقاف, يقول: تم تعييني منذ أغسطس2001, وراتبي منذ تسع سنوات وحتي الآن261 جنيها, ولي سبعة أبناء بمراحل التعليم المختلفة, فهل هذا راتب يقيم أسرة, ويحفظ لها كرامتها, ويصونها من السؤال, في ظل الغلاء الفاحش الذي لا يبقي ولا يذر أي عزة للإنسان؟ هل يكفي هذا المبلغ لشراء الطماطم أو السكر اللذين ارتفعت اسعارهما ارتفاعا جنونيا؟ إن هذا المبلغ لا يكفي مصاريف مواصلات الأولاد الي مدارسهم, إذا افترضنا أن كل واحد سيأخذ جنيها واحدا مصروفا في اليوم, فبحسبة بسيطة يتنهد في حسرة وألم فيكون المجموع سبعة جنيهات في اليوم, ويكون الحاصل في الشهر210 جنيهات, لاحظ يستطرد انني لم أتكلم بعد في مصاريف الطعام من الخبز واللحوم والخضار والمواد التموينية.. الخ, ولولا أن من الله علي بمصدر رزق اخر, حيث امتلك كوافيرا للحلاقة لتخطفتنا الطير, ولمددت يدي للسؤال. ويضيف: تمت زيادة رواتب الأئمة والخطباء بمبلغ250 جنيها في عيد الدعاة, في حين حرم العمال من هذه الزيادة, ويتساءل بمرارة تغص الحلق, لم هذه التفرقة ونحن نعمل في مؤسسة واحدة؟ عبده أبو رواش, موظف بوزارة الري, يريد أن يسأل أكبر خبراء الاقتصاد في العالم كيف يستطيع ان يعيش بمفرده براتب325 جنيها في الشهر, فكيف بمن لديه أبناء في مراحل التعليم المختلفة, وبنات علي وش جواز. هل يكفي هذا المبلغ للأكل فقط, ناهيك عن الضروريات الأخري, ويتنهد في حسرة وألم: لقد أصبحت اللحمة حلما بعيد المنال, واليوم الذي يكرمنا فيه ربنا, ونشتري اللحمة يكون يوم عيد, وما كان ينبغي أن أقول مثل هذا الكلام, ولكنها الحاجة التي أجبرتنا علي ذلك, ويتوجه الي المجلس الأعلي للأجور بهذا النداء ارحموا من في الأرض يرحمكم من في السماء, كما ينبغي تحديد حد أقصي للأجور لا تتعداه, مثل الحد الأدني. آراء خبراء الاقتصاد والسؤال الآن: كيف يري خبراء الاقتصاد الوصفة السحرية التي يمكن للمواطنين خاصة الموظفين الخروج بها من هذا المأزق؟ وما هي الخطوات والحلول التي يجب أن تقدم عليها الدولة لتحسين أوضاعهم؟ في البداية يطالب د.أحمد البرعي, وزير القوي العاملة السابق, الحكومة بعمل قانون موحد للأجور والأسعار, مشيرا الي ان الحكومة تتحكم في الأجور, بينما تترك الأسعار تتحرك حسب العرض والطلب, ووفقا لآليات السوق الحرة, ومن هنا تكمن المعضلات, وتكون المشكلات. من جانبه, يؤكد د.حمدي عبد العظيم, أستاذ الاقتصاد ورئيس أكاديمية السادات الأسبق, ان حال الرواتب في مصر لا يرقي الي حد الكفاف, خاصة تلك التي تحصل عليها العمالة المؤقتة, مبررا ذلك بعدم وجود معيار موضوعي يتم علي أساسه وضع الحد الأدني للأجور اللازم, لكي يعيش المواطن حياة كريمة, وتلجأ الدولة إلي تشغيل عدد كبير من العاملين بهذه الرواتب الضئيلة في محاولة منها لعلاج مشكلة البطالة. ورغم ذلك, فإن هذه العملية تتسم بعدم الوضوح, لأن معظم المتقدمين يكونون من أبناء العاملين أو من أصحاب الواسطة. وما يدعو للدهشة أكثر من ذلك وجود جهات لا تقوم حتي بدفع هذه الرواتب الضئيلة بزعم عجز الميزانية الخاصة بها. ويشير د.حمدي عبد العظيم الي انه لا توجد في مصر أسس ومعايير واضحة تحكم وضع الرواتب بعكس الدول في الخارج التي يتم تقييم الأجور فيها طبقا لمعايير الأسعار والغلاء والتضخم, وما يرتبط أيضا بمعدلات الانتاجية للعامل أو الموظف, ومن هنا يضيف د.عبد العظيم أصبحت انتاجية العامل تساوي صفرا لعدم انتظامه في العمل, وبحثه الدائم عن وسائل أخري للرزق, ويري د.حاتم قابيل, أستاذ الاقتصاد بتجارة المنصورة, ان نظام الأجور غير موضوعي وغير عادل, الأمر الذي يشجع علي شيوع وانتشار الفساد الضار المباشر, سواء باللجوء الي السرقة والاختلاس, أو مد يده بالرشوة, أو الفساد غير المباشر, بالبحث عن وسائل أخري, مما يترتب عليه الإضرار بالعمل. ويشير الي نظام الأجور المعمول به في مصر يخدم فئة ضيقة معينة, وشريحة محدودة جدا, حيث الانعقاد المستمر للجان, وما يترتب علي ذلك من بدلات ومكافآت وإضافيات أخري. ويوضح د.قابيل أن الشخص الذي يتراوح دخله بين600 و1000 جنيه يعيش دون حد الكفاف, لأنه لا يستطيع الحصول علي حاجاته الأولية أو الوصول الي كفايته من المتطلبات الأساسية للحياة.. ويتساءل: إذا كان هذا هو الحال بالنسبة لشخص بمفرده, فكيف يكون الحال بالنسبة لشخص يعول أسرة مكونة من أربعة أفراد ويتقاضي المبلغ نفسه؟ فهذا أمر شبه مستحيل, لذلك أصبح من الضروري إعادة النظر في الحد الأدني للأجور بما يتناسب مع الارتفاع المستمر في الأسعار. ويلفت د.حاتم قابيل النظر لأمر مهم جدا, ألا وهو فقدان العامل المصري الفرص والأماكن في السوق الخارجية, نتيجة عدم تقديره أي العامل المصري للعمل وقيمته, أو فهمه الفهم الصحيح, فأصبح يفضل عليه العامل الهندي واللبناني والبنغالي.. الخ, وذلك لرخص سعره علاوة علي تفانيه في العمل. أزمة ارتفاع الأسعار أما ناجي هندي, مدير الاستثمار بأحد البنوك فيحدد ثلاثة أسباب رئيسية لارتفاع الأسعار لو تم التعامل معها, فستحل أزمة الأجور المتدنية نسبيا, وهي أولا أن الاقتصاد المصري يسير بنظام استهلاكي وليس إنتاجيا, لذلك فهو يعتمد علي أسعار السلع العالمية, وبالتالي سعر الدولا. ثانيا: سوء استغلال الأوضاع الاقتصادية من جانب الموردين المتعاملين مع هذه السلع, لأنه يضيف هامش ربح مضاعفا. ثالثا: أن النظام الاقتصادي الحالي يشبع طلب فئة معينة, هي التي تملك قوة شرائية, وأمام ذلك كله, لن يستطيع أي مواطن, حتي ولو كان أكبر خبراء العالم في الاقتصاد, أن يعيش بهذه الدخول مهما حدث. ويختلف خبير الاستثمار في مسألة فتح الأبواب أمام الاستثمار الخارجي, لأنه ليس حلا, لكنه مجرد استثمار استهلاكي, لأنه يقوم بتحويل الدخل المصري إلي عملة الدولة الأم للشركة المستثمرة, والأفضل أن يعمل الاقتصاد المصري بكامل طاقته, وان يدور دورة اقتصادية كاملة يفوق فيها الانتاج الاستهلاكي. وللدكتور حسين شحاتة, أستاذ الاقتصاد بجامعة الأزهر, رؤية مختلفة لحل أزمة الأجور المتدنية, وهي قيام الحكومة بتنشيط الصادرات, لأن الإنتاج الكبير سيزيد من الدخل القومي, ومن ثم الدخول الفردية. ويضيف أن النظرية التي تقوم علي زيادة الأجور قد انتهت, فإذا كانت الحكومة في الأصل قد رفعت يدها عن التوظيف الاجتماعي, فكيف نسألها عن الأجور والرواتب؟ ويري أن الحل المتوافر حاليا هو أن يكون كل مواطن وزير اقتصاد لنفسه, ينظم اقتصاده, ويرتب أولوياته واحتياجات أسرته, بحيث يقوم بإدارة الموارد المحدودة لإشباع احتياجاته الأساسية عن طريق الأعمال الإضافية. علي قد فلوسهم الدكتورة سامية خضر صالح, أستاذ الاجتماع بتربية عين شمس, تنظر الي القضية من جانب اجتماعي, فتؤكد مدي المعاناة التي يتعرض لها المواطن, وهذه كارثة إنسانية بكل المقاييس, حيث توجد شريحة كبيرة من الموظفين يعيشون تحت حد الكفاف, علما بأن لدينا موارد كبيرة. وتشير الي انه نتيجة الأجور المتدنية, ظهر مبدأ رفعه جميع العاملين والموظفين وهو علي قد فلوسهم وإذا لم يتم حل هذه الظاهرة, فإن عمليات الرشوة والاختلاس والسرقة ستستمر, وستزداد معدلات الجريمة بسبب زيادة معدلات الحقد الطبيعي, وهذا تنفيس مشروع, جراء انه أصبح يوجد في المجتمع عندنا طائفتان لا ثالث لهما, الطائفة الأولي: التي تعيش في الثراء الفاحش, وتسكن القصور المنيفة, والشاليهات الفخمة, والفيلات الأنيقة, أما الفقر المدقع, فهو من نصيب الطائفة الثانية الأكثر عددا والأكبر حجما, التي تسكن القبور, وتعيش في علب الصفيح, جنبا الي جنب مع الفئران والحيوانات, مما ترتب عليه اختفاء وتلاشي وذوبان الطبقة الوسطي, وليس أدل علي ذلك من تفشي ظاهرة أطفال الشوارع, التي جاءت نتيجة مباشرة للفقر وتدني الأجور, وانحلال الشباب والفتيات.