ونحن نعيش حالة من العبث السياسي الغريب الذي لم تشهده مصر في تاريخها كله.. فوضي بلا رابط وبلا ضابط.. وبلا حدود.. اتهامات متبادلة.. وتنابذ بالألقاب بين كل الفرقاء.. وألفاظ سوقية يندي لها الجبين في العلن وعلي النت وعلي الفيس بوك تتندر بها وتسخر قنوات التواصل الاجتماعي.. وعلي عينك يا تاجر! ومظاهرات وصلت حتي أعتاب القصر الجمهوري نفسه.. وتجمعات لا تعرف الراحة ولا تعرف الرحمة ولا الأدب ولا أصول الاحتجاج.. ومليونيات في التحرير.. البيات فيها صباحي.. وشباب ضايع صايع يحاول إيقاف مترو الأنفاق.. ومظاهرات من كل درب وحدب, ومن كل جماعة ومن كل فصيل.. ترفع الأعلام واللافتات.. ويصرخ فيها المحمولون علي الأعناق بهتافات التهديد والوعيد.. وحتي من ليس له فصيل أو جماعة.. ملأوا جيوبهم بفاسد الأموال وأعموا عيونهم بمعسول الوعود وكاذب العهود لتزعق بالصوت الحياني وتحطم وتضرب وتثير في طريقها زوابع وغيامات سود من الفتن والأحقاد والغل الدفين.. ويسقط في طريقها جرحي.. لا يهم.. وتسيل دماء.. لا يهم.. وتقتل أحيانا.. لا يهم.. مادامت قد تركت في صفوفها وفي صدور من قاموا بها فرجة للشيطان لكي يندس بيننا ويدس لنا ويحول مصر العظيمة إلي جحيم مقيم.. ونار موقدة في الصدور.. وعداوة وخصام في بلد الدين والكتاب والصلاة لله الواحد الأحد.. ومظاهرات وخيام حول القصر الجمهوري نفسه, وسط هذا السعير الذي يلفح الوجوه.. دعتني سيدة فاضلة أحمل لها في صدري ودا واحتراما وتبجيلا.. فهي معلمة أجيال وصاحبة مباديء وكتب ومحاضرات ودراسات في تعليم الصغار والكبار درسا واحدا عنوانه: وجه بوصلة حياتك ابدا ودائما ناحية مصر الأم. أقول دعتني هذه السيدة العظيمة لكي أزورها في بيتها بقولها: إلحق.. بنتي الوحيدة قافلة باب حجرتها علي نفسها.. لا تريد أن تأكل أو تشرب.. أو حتي تذهب إلي شغلها في أحد مكاتب الأممالمتحدة في القاهرة! سألتها: لم؟ قالت: إنها حالة الفوضي السياسية وغير السياسية التي نعيشها الآن في بلدنا.. حتي أصبح مجرد النزول إلي الشارع يعني مخاطرة كبيرة.. بعد أن توقف كل شيء! قلت: وما علاقة ابنتك التي تعمل في الأممالمتحدة.. وحالة الفوضي السياسية التي تعيشها مصر الآن؟ قالت: يا أفندم.. ما ينفعشي الكلام في التليفون.. تعال بنفسك واتكلم معاها.. أنت نسيت انها بتعتبرك في منزلة والدها.. بل انت اللي مربيها.. وانت في الحقيقة أبوها الروحي.. واللا عاوز تنكر نهر الخير ده كله! بمجرد أن أخبرت زوجتي العزيزة التي شالت همي وغمي ومرامي العمر كله.. صابرة مثابرة.. لا تشكو ولا تتألم.. ان فلانة هانم هذه تكلمت وتريدني في موضوع مهم عشان بنتها العروسة.. دوغري قالتلي: هو معقول حد يتأخر عن الست هانم وبنتها العسل دي.. انت رايح لها امتي؟ قلت: الصبح.. قبل ما أروح الجرنان! قال: رجلي علي رجلك.. دي حتي وحشاني جدا.. ونفسي أشوفها هي وبنتها من زمان! بدري بدري ذهبنا.. زوجتي العزيزة تسبقني بخطواتها المتئدة إلي شقة المربية الفاضلة.. لتضرب هي جرس الباب بنفسها لتفتح لنا صاحبة البيت التي كانت تنتظر حسب الموعد.. تبادلت مع زوجتي القبلات الحريمي المعتادة وقالت لها: أحسن إن حضرتك جيتي.. كنت حأزعل قوي لو ما جتيش! قالت زوجتي: هو أنا أقدر أتأخر علي القمورة بنتك دي! قالت ربة البيت: نشرب الشاي الأول.. واللا أعمل فطار سريع؟ ردت زوجتي: كفاية الشاي.. إحنا فطرنا بدري والحمد لله.. أمال فين القمورة بنتك دي حتي وحشاني من زمان؟ قالت ربة الدار: عبال ما تشربوا الشاي.. أكون أنا صحيتها من النوم.. دقائق قليلة ودخلت علينا الأم بصينية الشاي وقطع الحلوي.. وعباراتها تسبقها: البنت ما كانتشي عاوزة تصحي.. لكن لما قلتلها دا بابا فلان هنا وذكرت اسمي قالتلي: صحيح أنا حأصحي وجايالكم علي طول. لم تنس زوجتي العزيزة أن تسألني هامسة عندما خرجت صاحبة الدار من الحجرة: هو انت خلفت القمورة دي امتي.. تكونشي بنتك بصحيح! قلت لها هامسا برضه: يا شيخة بطلي سوء الظن ده.. انتي نسيتي إنك حضرتي يوم ولادتها في المستشفي, وانتي اللي اخترتي لها اسمها.. وكان أبوها موجود.. قبل ما يسافر كندا عشان شغله كله هناك في مونتريال؟ قالت: يا راجل انت قلبتها جد واللا إيه! أخيرا.. جاءت البنت قمر أربعتاشر والله.. هكذا استقبلتها زوجتي التي احتضنتها وقبلتها.. بينما تعلقت البنت القمورة برقبتي, وقد تساقطت الدموع من عينيها.. وهي تقول: أنا آسفة يا بابا.. ما هو انت زي بابا لحد ما يرجع من السفر.. نفسي أحكيلك وأشكيلك! قلت: إيه يا بنتي زعلتيني.. هي الحكاية إيه؟ قالت البنت القمورة: أنا خطيبي حايسبني.. وموش عاوز يكمل معايا! أسألها: ليه؟ قالت: عشان حالة الفوضي والمظاهرات وقفل الطرق ووقف الحال.. اللي في كل شبر موش بس في القاهرة.. لكن في كل مكان في مصر! تسألها زوجتي بعد أن احتضنتها هي الأخري وهات يا قبلات: هو ما صدق الدنيا تضرب تقلب في البلد.. عاوز يطفش ويسيبك.. فيه واحد يسيب قمورة زيك اللي ما فيش في بر مصر كله زيك اتنين! قالت وهي تأخذ مكانها في وسطنا أنا وزوجتي علي الكنبة العريضة في الصالون الشيك: كل مرة نتفق فيها ننزل نشتري الموبيليا واللا حاجات المطبخ.. التلاجة والبوتاجاز والسخان والغسالة وأجهزة التكييف.. تقوم قيامة الدنيا.. والبلد كلها تضرب تقلب.. دي حتي المظاهرات اللي كانت ما تقدرشي تقرب واللا تعتب الحتة اللي إحنا ساكنين فيها وراء القصر الجمهوري, وصلت لحد باب البيت.. والفيللا بتاعتنا حطوا قدامها أسلاك شائكة مع دبابات الحرس الجمهوري.. وكل ما يسحبوها يرجعوا تاني يجيبوها.. وما قولكشي عن المظاهرات اللي ما بتسكتش لا ليل ولا نهار, والأصوات والاشتباكات والهتافات.. وألعاب الليزر.. وناس رايحة وناس جاية.. وصواريخ وشماريخ وطلقات رصاص كمان وفرقعات وهتافات.. موش عارفين بصراحة كده لا نروح ولا نيجي! الأم تكمل حديث ابنتها وهي تصب لنا الشاي الساخن: واللي زاد وغطي كمان.. يوم ما حددنا كتب الكتاب في الحسين.. قلنا نكتب الأول وبعدين نجهز الشقة.. بصينا لقينا دار الإفتاء والأزهر الشريف اللي كنا حنكتب كتاب البنت هناك قفلوه بالمظاهرات والاحتجاجات.. ماحدش عارف يحط رجله هناك.. دول حتي في المشيخة بطلوا يكتبوا كتاب العرايس.. وكل ما تسأل يقولوا لنا: لسه شوية.. عشان البلد تبطل تفرح وتزغرد وترقص وتغني وتقيم الأفراح والليالي الملاح وتستر بناتها في آخر الزمن! قلت: وعشان كده العريس.. قال حقي برقبتي مادامت البلد كلها نكد في نكد.. وموش عاوزة تفرح وتفرح معاها ولادها وبناتها! قالت الأم: في شرع مين بس.. حكاية المليونيات اللي بيعملوها دي في التحرير, وفي رابعة العدوية.. دول حتي وصلوا لحد القصر الجمهوري اللي ما كانشي حد يقدر يهوب جنب السور بتاعه دلوقتي عاملين خيام جنب السور.. وحتي السور نفسه بتاع القصر بيكتبوا عليه عبارات لا تليق بمنصب ومقام رئيس الجمهورية. قالت البنت: البلد دلوقتي متلبشة.. متحزمة بجنازير اسمها المليونيات والمظاهرات ليل ونهار.. المحلات قفلت والتجار فلست.. والبورصة في النازل ومؤشر الاقتصاد راكب بسكليتة ونازل بالبلد كلها لحد فين ما حدش عارف.. فاضل شوية ونوصل للخراب المستعجل! الأم تتدخل: تعرف سيادتك قرارات رفع حد الضرائب علي كل شيء اللي كان خلاص الحكومة حتنفذها.. كان حيخلي الناس توقع والستات في البيوت تفقع بالصوت الحياني.. كل حاجة كانت سترتفع أسعارها: الكهرباء+ البوتاجاز+ رغيف العيش+ اللحم+ الزيت+ الصابون+ الكهرباء+ الماء+ ضرائب الدخل+ ضريبة المبيعات+ السكة الحديد والأوتوبيسات وطبعا سواقين الميكروباصات حيرفعوا الأجرة واللي عاجبه يركب واللي موش عاجبه يأخدها لشغله ولبيته كعابي! قلت: الحمد لله إن الريس محمد مرسي لغي القرارات دي في الوقت المناسب! قالت: هي الحكومة عاوزة تغرق البلد في شبر مية واللا إيه! ................. ................. تتأبط ربة البيت ذراع زوجتي من يدها ويذهبان معا إلي الداخل ليخلو الجو لي مع ابنتنا المسكينة.. التي قالت لي: تعرف سيادتك سبب بلاوي مصر كلها إيه؟ قلت: إيه؟ قالت: الجرايد الخاصة اللي مالهاش صاحب.. والمحطات التليفزيونية الدخيلة علي حياتنا.. دي محطات مغرضة.. المذيعين المغرضين الذين دفعوا لهم كثيرا لكي يقلبوا الحقائق ويقلبوا حال البلد.. عشان كده لازم الجرايد دي شوفولها حل+ القنوات دي تختفي من حياتنا.. والغريب إن كل اللي بيشتغلوا فيها كلهم مصريين.. لكن اشتروهم بفلوسهم! أسألها: من هم؟ قالت: انت أدري مني بالجواب.. يكونش الفلول.. واللا ناس عاوزة خراب البلد عشان تمسك البلد بدل الريس مرسي.. من اللي خسروا قدامه في الانتخابات.. واللي عاوزين يدوروا لهم علي دور دلوقتي في وسط الهيصة والزمبليطة دي.. موش حجة إعلان دستوي واللا استفتاء علي دستور أبدا! قلت لها: سيبك يا ست هانم.. فيه سبب آخر دفع عريسك يطفش ويقول حقي برقبتي! سكتت قليلا ثم قالت: عندك حق أيوه فيه! قلت لها: إيه هو يا تري؟ قالت: أصلهم في الشغل بتاعه.. صاحب الشغل راجل أجنبي.. لقي حاله وقف بعد أحداث الفوضي والمظاهرات ومافيش حد بيشتري ولا حد بيبيع.. بضاعته بارت راح يعمل إيه.. قفل شركته ومصنعه وسرح العمال وكل الموظفين.. والسبب فوضي الشارع المصري! قلت: يعني خطيبك كمان أصبح خالي شغل! قالت: أيوه! قلت: وعاوزاه يا بنت الناس كمان يتجوز! ................. ................. قبل أن أترك القمورة المقهورة.. قلت لها: شوفي يا ست هانم.. صباح السبت يوم استفتاء الدستور.. البسي لبس عروسة.. ويلبس عريسك بدلة الفرح وروحوا لجنة الاستفتاء.. قولوا رأيكم في الدستور.. إن قلتم نعم.. ستعود البلد كما كانت ميت فل وأربعتاشر وتعود حركة الاقتصاد كما كانت وأكثر.. ويعود عريسك إلي عمله.. ونقدر ساعتها نيجي ونبارك لك أنت وعريسك في بيت العدل.. مفهوم يا بنت الناس! تسألني: وإن قلت لا؟ قلت: نرجع لنقطة الصفر من جديد ويبقي لا جواز ولا يحزنون وذنبكم علي جنبكم{! المزيد من مقالات عزت السعدنى