اليوم أحدثكم عن بتهوفن وحكايته مع نابليون, كيف بدأت الحكاية, وكيف انتهت, وكيف تشابهت هي وحكايتنا مع جمال عبد الناصر؟. ولاشك أن الكثيرين يعرفون من يكون بتهوفن, ومن يكون نابليون, نحن جميعا نعرف أن بتهوفن هو الموسيقار الألماني العظيم, مؤلف الروائع الخالدة التي لم يؤلف مثلها موسيقار قبله ولابعده, ونحن جميعا نعرف أن نابليون بونابرت هو القائد العظيم الذي سار بجيوش الثورة الفرنسية ينتقل بها من نصر إلي نصر, ويرفع رايات الثورة ويهتف بشعاراتها, ثم توج نفسه امبراطورا فسقطت من يده الراية, وتحول إلي طاغية وانهزم! وبتهوفن لم يكن مجرد فنان عظيم, وإنما كان فنانا وصاحب رسالة, وهو في هذا يختلف عمن سبقوه من كبار الفنانين الموسيقيين أمثال باخ, وهايدن, وموزار, هؤلاء كانوا يحيون في قصور النبلاء الألمان والنمساويين وحياة الخدم, كانوا يرتدون الملابس المخصصة لمن يعملون في خدمة هؤلاء النبلاء ويحملون شاراتهم ويقيمون في الطوابق السفلية وفي الغرف المخصصة للطهاة والأتباع وعمال النظافة, تماما كما كان الشعراء المداحون يعاملون في قصور الخلفاء والأمراء العرب, ومثلما أثار بعض الشعراء العرب علي هذا الوضع المهين وطلبوا لأنفسهم مايستحقونه من الاحترام والتكريم, كما فعل أبو الطيب المتنبي مع كافور الاخشيدي في مصر, رفض بتهوفن أن يلتحق بقصور النبلاء أو يحصل علي عطاياهم أو يطلب مساعدتهم, بل لقد كان يعاملهم هو معاملة السيد المتفضل ويفرض عليهم أن يتحملوا نزواته وردوده الفظة الجارحة, وأن يركضوا وراءه يسترضونه ويطيبون خاطره, وربما ضاق بتهافت بعض الأمراء علي دعوته ومبالغتهم في تكريمه فتركهم غير حافل بنداءاتهم! والشئ بالشئ يذكر, فقد كنت في العشرين من عمري أو بعدها بقليل حين نظمت قصيدتي دفاع عن الكلمة التي ثرت فيها علي المكان الذي احتله يوسف السباعي في الحياة الأدبية المصرية فهو ضابط أكثر منه كاتبا, وقد استمد قوته من أجهزة النظام, فصار قادرا علي كل شئ, يقرب من شاء, ويبعد من شاء, ويجزل العطاء لمن يمدحونه ولو كانوا نكرات, ويمنع من السفر من ينقدونه من أمثال عبد القادر القط, ومحمد مندور, ومما قلته في دفاع عن الكلمة أنا أصغر فرسان الكلمة/ لكني سوف أزاحم من علمني لعب السيف/ من علمني تلوين الحرف/ سأمر عليه ممتطيا صهوة فرسي/ لن أترجل لن يأخذني الخوف/ فأنا الأصغر لم أعرف بعد مصاحبة الأمراء/ لم أتعلم خلق الندماء/ لم أبع الكلمة بالذهب اللألاء/ ماجردت السيف علي أصحابي فرسان الكلمة/ لم أخلع لقب الفارس يوما فوق أمير أبكم! ونعود إلي بتهوفن لنقول انه كان يعرف قدر نفسه, لا كفنان عظيم فحسب, بل كإنسان قبل أي اعتبار آخر, فقد كان في التاسعة عشرة من عمره يوم اقتحم الثوار الفرنسيون سجن الباستيل, وواصلوا ثورتهم التي امتدت شراراتها إلي انحاء العالم لتنقله من عصور الطغيان والظلم إلي عصر العدالة والحرية. ونحن نعرف أن الثورة الفرنسية لعبت دورا خطيرا في نهضتنا الحديثة التي بدأت في أواخر القرن الثامن عشر بحملة نابليون بونابرت, وباستطاعتنا أن نقدر تأثير الثورة الفرنسية في أوروبا عامة, خاصة في ألمانيا التي كانت مهيأة أكثر من أي بلد آخر لتتبني رسالة الثورة التي مجدت العقل, وردت السلطة للشعب, وأدانت حكم الاقطاعيين ورجال الدين, وبشرت بحضارة جديدة تقوم علي التسامح, والأخوة البشرية, واحترام حقوق الإنسان, والإيمان بقدرته علي أن يحقق لنفسه السعادة في الحياة الدنيا. وهي أفكار وشعارات اهتدي المفكرون والشعراء الألمان الذين عاشوا في عصر التنوير القرن الثامن عشر من أمثال لايبنتز, وعمانوئيل كانط, وجوته, وشيلر, كما اهتدي لها المفكرون والشعراء الفرنسيون الذين عاشوا في ذلك العصر من أمثال فولتير, وجان جاك روسو, ومونتسكيو. لكن الفرنسيين سبقوا الألمان إلي الثورة علي ماضيهم وأنشأوا زمنا جديدا يتبني شعارات الاستنارة ويتغني بالحرية والمساواة والإخاء, ومن هنا وقف الألمان إلي جانب الثورة الفرنسية التي زلزلت الأرض تحت أقدام أمرائهم خاصة في إمارة كولونيا حيث ولد بتهوفن, وقرأ عن الثورة, وتابع انتصاراتها, ومجد فارسها المغوار ورافع راياتها في الآفاق نابليون بونابرت. كان نابليون بونابرت من أبناء الجيل الذي فتح عينيه علي الثورة وامتلأ وجدانه بأناشيدها, فقد ولد عام1769 قبل بتهوفن بعام واحد, وكان في العشرين من عمره ضابطا في الجيش حين اشتعلت الثورة في بلاده فناصرها, ودافع عن الحكومة الديمقراطية التي قامت في ظل الثورة وسحق حركة التمرد التي قامت ضدها وهو في الرابعة والعشرين من عمره, وقاد الفرنسيين في حربهم مع النمساويين وعاد متوجا بالنصر, ثم عبر البحر إلي الإسكندرية ويدمر مابقي لهم وللأتراك في مصر, ثم يعود إلي فرنسا ليستولي علي السلطة, ويتوج نفسه امبراطورا فيخيب أمل الأحرار فيه وتسقط صورته في خيالهم وتتحطم, كما حدث له مع الموسيقار الألماني العظيم. كانت انتصارات نابليون التي حققها دفاعا عن الثورة وشعاراتها قد أوحت لبتهوفن بالسمفونية الثالثة التي صور فيها نابليون في هيئة البطل الأسطوري اليوناني بروميثيوس الذي اقتبس نار الإلهة وأهداها للبشر فعوقب عقابا رهيبا. غير أن نابليون تنكر لمبادئه, وخان نفسه, وتحول إلي طاغية, فماذا فعل بتهوفن؟ يقول الدكتور حسين فوزي إن بتهوفن صاح إذن هذا البونابرت ليس إلا رجلا من السوقة, إنه يدوس علي حقوق الإنسان, ولايصيخ إلا لصوت أطماعه, إنه يرتفع علي هامات البشر ليكون جبارا عاتيا, ثم جري إلي المكتب حيث كانت مخطوطة السموفنية فمزق صفحة الاهداء, وألقي بها إلي رماد المدفأة, وأبدل بالصفحة الممزقة صفحة جديدة تحمل بدل اسم بونابرت اسم السمفونية البطل. ألغت لاحياء ذكري رجل عظيم. وكما فعل بتهوفن في السمفونية التي أهداها لنابليون أفعل في القصائد التي أهديتها لجمال عبد الناصر إنني أهديها للرجل الذي تخيلناه, لا لهذا الذي خاب ظننا فيه!