في مقال سابق في ذات الموضوع تكلمنا عن أن الميزة النسبية قد تكون طبيعية أو بشرية أو تنظيمية أو بعضهم أو كلهم معا. وقد خصصنا الكلام عن نهر النيل باعتباره الميزة الطبيعية الكبري لمصر, وكيف نهدرها باستخدامات ومشروعات جائرة جاوزت المدي تهددنا بفقدان تلك الميزة وتعجل بهبوط الي مصاف الفقر المائي. واليوم نتحدث عن ميزات بشرية نعالجها من زاوية عدد السكان, وما يتفرع عنه من شبكة متفاعلة من التأثير والتأثر علي جميع الجوانب الطبيعية والتنظيمية والاقتصادية. ومن البداية نعرف أن السكان كثروا أو قلوا هم ميزة إذا حسن تأهيلهم وإسهامهم في نمو المجتمع في شتي نواحيه الادارية والسياسية والاقتصادية, ويصبح السكان مشكلة اذا ساءت الأحوال نتيجة اختلالات مجتمعية علي رأسها فقد عدالة توزيع الأدوار والتمثيل وانقسامهم الي فئات يتطرف فيها الغني والفقر الي حدود قصوي, أو اذا تسببت الأمور وحاز المغانم أصحاب القوة بجميع معاني القوة الايديولوجية أو ادعاء شرعية ما أو قوة مال وسلاح, وغير ذلك كثير. أخيرا فالعدد له دور كمي يزيد ويتميز أو ينقص وينحط بما له من صفات نوعية وكيفية. *** سكان مصر عدديا انتابه زيادة ونقصان طوال الأزمنة. في عهد ما يصبح تشغيل القوة البشرية عاملا مساعدا علي استقرار الأوضاع الاقتصادية والتنظيمية والعسكرية, ومن ثم رفاه مستدام بطول كل فئات المجتمع. وحين يعتري أي من تلك الأوضاع تغير ما تحدث مجموعة متغيرات في الأوضاع الأخري تؤدي الي انقضاء زمن الوفرة والرفاهية والدخول الي عهد أو فترة من التناقص, وربما التدهور يصيب أول ما يصيب الفئات الفقيرة التي ترضخ بالأماني والدعاء, وتلجم بالقوة, وفي النهاية تهاجر أو تثور, وتفقد المركزية قوتها لسلطات إقليمية حتي يظهر تنظيم جديد للثروة, لتعود الأمور كالسابق شكلا لكنه مختلف موضوعا. قد تكون المتغيرات المسببة لتبدل الأوضاع طبيعية كأن يصيب فيضان النيل انخفاض أو قوة مدمرة سنوات متتابعة, مما يسبب تناقص الغذاء وتناقص موارد خزانة الدولة والمعابد فيحدث السيناريو السابق من تفكك وتدهور يزيد الموقف سوءا. أو أسباب بشرية تكنولوجية كتعرض مصر لغزوات جماعات تستخدم أسلحة وتنظيما عسكريا أحدث من الجيش الذي شاخ علي نمط تنظيمي لمدة طويلة. مثل غزوة الهكسوس واستخدام عربة الحصان العسكرية كسلاح حربي جديد مكنهم من مصر, أو حروب الحيثيين المدججين بالأسلحة الحديدية ذات الفعالية الأقوي مقابل الأسلحة البرونزية المصرية التقليدية في صراعهما علي تملك شمال الامبراطورية المصرية في بلاد الشام. وبالمثل فإن طموحات نظام سياسي بغرض الهيمنة علي الشرق الأوسط أو زعامته تجهد معها موارد مصر السكانية والاقتصادية في مواجهة قوة أخري لها نفس الطموحات كما حدث تكرارا في مواجهات تحتمس الثالث مع الميتاني أو رمسيس الثاني مع الحيثيين أو المماليك مع العثمانيين أو محمد علي مع بريطانيا أو عبد الناصر مع القوي الغربية. وكذلك الحال عند ركود نظم سياسية اقتصادية زمنا طويلا فإنها تؤدي الي تناقص نسبة النمو السكاني ربما تصل الي حد تناقص السكان لأسباب مترتبة علي احتقان أزمات المجتمع الحياتية كأمراض الجوع والأوبئة والقلاقل الدامية بين ادعاء تولي الحكم بدعوي إصلاح الأوضاع وينجم عن هذا وذاك هبوط كبير في دينامية المجتمع تسد حراك الناس وتوقف إبداعاتهم جريا وراء مجرد البقاء. تكررت ظهور هذه الأوضاع كثيرا طوال تاريخ مصر مثلما حدث في نهاية عصر بناة الأهرام أو فترات نهاية الدولة الحديثة والعصر الفرعوني المتأخر, حين كان كفاح الشعب مجرد البقاء المجتمعي الثقافي. وبالمثل فترات نهاية عصور الفاطميين والمماليك والعثمانيين حتي صدمة المواجهة مع عالم جديد في آخر القرن18( نابليون في مصر). وبداية المشاركة المصرية مع الحداثة العالمية الي وقتنا هذا مع تقلبات بين صعود وهبوط وعوامل دفع للأمام وأخري جذب للخلف. *** لم يكن كل تاريخ مصر هو المرور بتلك الفترات الحرجة فقط. فهناك وجه آخر مشرق علي رأسه أن مصر ظلت مصر بفضل قوتها السكانية العددية منذ القدم. مرت أقوام وقوي في جنبات مصر أثرت فيها وتأثرت بها, لكنها اندثرت وبقيت مصر حتي ولو أصابها بعض التلف بفضل كتلتها السكانية الكبيرة من حيث الكم وبفضل تماسكهم لغويا وثقافيا من حيث الكيف. صحيح أن اللغة والدين تطورا وتغيرا لكن ذلك كان في إطار من الثقافة المصرية الأساسية. بقيت الكتلة السكانية كبيرة مع متغيرات الزيادة أو حتي مع التناقص النسبي لنمو السكان, وبدونها ما بقيت مصر القوية أو مصر الضعيفة. نظرة إلي مصر القوية ليس فقط انجازات العصور الفرعونية الحضارية والعلمية والاقتصادية والسياسية, بل أيضا الي مصر الاسلامية التي كانت الجائزة الكبري في العصر الأموي والعباسي لكنها تملصت في عهد الطولونيين والاخشيديين. وبدون مصر لم يكن مقدرا للفاطميين تلك القوة الزاهرة التي استمرت نحو قرنين, وبدون مصر لما كانت انجازات صلاح الدين الكبري في وضع الختام لقرن من الحروب الصليبية, وبدون مصر ما امتدت دولة المماليك علي الشام والحجاز وتوثقت علاقاتها الأوروبية, وبدون مصر ما قدر محمد علي منازلة العثمانيين حتي قرب أسطنبول, ولا امتد حتي أعالي النيل. وبدون مصر ما بدأت حركة التحديث في أجزاء كثيرة من البلاد العربية. إذن فقد كان تشغيل قدرات مصر السكانية بكفاءة هي العامل الجوهري في كل تلك الانجازات فلماذا أصبحت في مصر الآن مشكلة سكان؟ هل قدرة تشغيل العدد الوفير هي المشكلة؟ أم هل أننا نمر بمرحلة تغيير اقتصادي لم تتحدد بعد أشكاله وأهدافه بغض النظر عن أهداف حالية هي في مجملها ردود فعل تخاطب أوضاع وأزمات حالية دون إطار ايديولوجي للتغيير؟ بمعني تشتت أعمال بين مشروعات غير مدروسة بالكفاية الواجبة دون تجريب. فالوقت والناس اليوم ليسوا في مرحلة التجريب, بل في مرحلة تستوجب الفهم لما يدور, فقد مضي عهد التجريب أو اختراع مسكنات لأزمة عميقة الجذور تتلخص في التساؤل, هل كان الماضي البعيد أحسن أم الزمن الجميل القريب؟ بمعني ما هي مقومات ما نحن بصدده من التغيير وما هي رؤيته لكل فئات المجتمع؟ المشكلة السكانية المصرية تبحث عن حل في الداخل وليس في الخارج. فهل الحل في انشاء مشروعات زراعية وغزو الصحراء مع ما في ذلك من نقص المياه اليوم وغدا أكثر؟ أم الحل المزيد من الصناعة بدلا من استثمارات الزراعة المحفوفة بخطر قلة مواردنا المائية؟ وأي أنواع الصناعة: متوسطة التقنية أم هاي تك؟ وهل تأهيل الناس عملية بسيطة أم تحتاج تدبرا حقيقيا لفترة زمنية يجب أن نشد فيها الحزام علي البطون؟ وماذا عن قطاع الخدمات الذي يشغل نحو نصف القوي العاملة في مصر ويزيد أكثر من ذلك مع الزمن؟ وماذا عن استخدام ظروفنا البيئية ليس فقط في السياحة, بل في الاستشفاء والفنون والطاقات المتجددة؟ اليابان كانت مثلنا من قرن لكنها نجحت باستخدام طاقتها العاملة في ظل أفكار حول التقدم برغم قوي الثقافة التقليدية اليابانية التي تشبه خطوات العودة الي أصول فكرية فات أوانها. والهند لديها مشاكل سكانية ثقافية ودينية ولغوية هائلة أشد أثرا مما نحن عليه لكنها بعد فترة إعداد استمرت نحو عقدين من الزمن أصبحت قادرة علي تشغيل جانب من قدراتها البشرية الاقتصادية والتنظيمية في ظل تبادل السلطة من حزب أسرة نهرو غاندي صاحب الفضل في الاستقلال الي أحزاب أخري تخاطب مرحلة أخري من ديناميكية الشعوب. ونحن لسنا ماليزيا أو سنغافورة, بل نحن أشبه بإندونيسيا في جنوب شرق آسيا, ومع مشكلاتهم بين العدد السكاني والاختلاف الديني وحركات الأصولية المذهبية العنيفة, فإنه يبدو أن لديهم مخططات تنموية مدروسة بكفاية. الدروس المستفادة من تجارب هذه الدول أمر مهم ولكن علينا أن ندرك أننا في مرحلتنا لن نصل أو نحاول أن نصل إلي مثل شركات ورءوس أموال يابانية وهندية وماليزية تعمل في الخارج وتنافس بنجاح شركات غربية. علينا أن نعرف أن تلك الشركات والأموال يجب أن تستند أولا إلي قوة نمو داخل مصر لكي تستطيع مجاراة تقلبات العمل في دول خارجية حتي ولو كانت شقيقة كما نسميها أحيانا. نعود مرة أخري الي مشكلة نمو سكان مصر فالاحصاءات الرسمية تقول اننا أشرفنا علي80 مليونا وأن نسبة النمو السنوية هي نحو2.2% بينما احصاءات أخري ذات سمعة طيبة تقول إن مصر منذ تسعينات القرن الماضي تنمو بنسبة تصل الي ما بين1.7 إلي1.9. وإذا تركنا ذلك جانبا فقد نجد مؤشرات أخري للدلالة علي أن نسبة النمو تتناقص من قراءة أرقام وزارة الصحة التي تدل علي أنه بين1992 و2008 زادت نسبة الزوجات( بين15 49 سنة) اللاتي يستخدمن وسائل تنظيم الأسرة في المدن الحضرية في تلك الفترة من59% الي65% وفي محافظات الوجه البحري من50 الي65% وفي الوجه القبلي من30 إلي50%., الشيء المهم ارتفاع سكان مصر. وكذلك الصعيد باعتبار أن أهل الصعيد أكثر تشددا في المحافظة علي التقاليد من بقية سكان مصر. وكذلك مؤشرات أخري مفادها ارتفاع نسبة سكان المدن في مصر الي نحو44% من مجموع السكان. ومعروف أن سكان المدن كواقع مدروس هم أقل مواليد من سكان الريف. ومع البحث نجد مؤشرات أخري علي تباطؤ نسبة النمو السنوي الي أقل من الرقم الرسمي. ولا شك أن تناقص النمو اذا بدأ يصبح نمطا متبعا علي مر العقود ومن ثم تقل المشكلة العددية في الاعتبارات السياسية التي نتخذها في أحيان شماعة اعتذارية عن قصور التنمية ومشكلات العمل والدخول شبه المجمدة أمام تضخم أسعار الحاجيات الملحة للحياة البسيطة من غذاء وكساء وعلاج ناهيك عن الترويج والثقافة التي حل محلها فنون دون المستوي. *** إذا كانت نسبة النمو السكاني آخذة في النقصان, فإن ذلك هو جانب واحد من المشكلة السكانية. الجانب الآخر هو اعداد وتأهيل الناس ليس فقط علي الأعمال التقليدية الزراعية والصناعية والتجارية, بل فتح مجالات أكثر شمولا لجوانب التكنولوجيا الحديثة في مجالات عديدة كالكهرباء من الطاقات المتجددة( رياح وشمسية) الي جانب الطاقة الهيدرولوجية. وإذا أردنا تنفيذ مشروع الطاقة النووية فلابد من اعداد المشتغلين بها من الآن كي نجدهم بعد عشر سنوات من بدء العمل في اقامة المحطة النووية التي قد تفتح الشهية لمحطات أخري رغم مخاطرها التي ترتفع كثيرا مع روح التواكل المصرية التي نبعت أصلا في اقتصاديات الرعي والزراعة, لكنها شاعت بين مهاجري الريف فصبغت الكل بها. التعليم والتدريب المهني كانان يعتمدان في الماضي علي نظام الصبي في أي حرفة, لكنه الآن علم له أصول وزمن دراسي يتراوح بين التخصيص المهني بعد الاعدادية وآخر في معاهد عليا وكليات تكنولوجيا وإدارة أعمال. ولعدة عقود عندنا تركيز علي شهادات جامعية بحيث أصبح الهرم مقلوبا لأننا باختصار نمجد الشهادات العليا حتي لو لم تجد فرص العمل المتوقع من مهندس أو طبيب أو تجاري وزراعي وإداري. والمطلوب الآن لجنة حكماء ليس فقط من أساتذة بل ينضم اليها ممارسون من بنوك وشركات ونقابيين وعمال لتجديد خطة مرنة للتعليم تنفذ بدقة بدلا من الجهود الفردية الحالية لوزراء التعليم بأشكاله ومستوياته, وبدلا من شعارات معلنة كالجودة والانتظام في كتلة عاملة في التعليم هي أكبر كتلة في القوة العاملة المصرية لكنها الأقل حظا في الميزانية والرواتب والأبنية والمعامل وشروط كثيرة أخري. فكيف في هذا الخضم من العجز نطلب الجودة, وكيف مع تدني الرواتب لا تنتشر الدروس الخصوصية علي جميع المستويات التعليمية بحيث ربما قد تصل الي رياض الأطفال! الدروس الخصوصية مشكلة مشابهة لتجريف التربة. كيف عالجتها الدولة؟ أغلقت مصانع وقمائن الطوب الأحمر التي كانت تعيش علي نزيف التربة فتوقف التجريف. علاج الدروس الخاصة أيضا يمكن التغلب عليه بقيام مناخ صحي للتعليم من المدارس والفصول ووفرة المعلمين, وتحديث البرامج التي تشحذ العقول بدلا من الحفظ عن ظهر قلب, وتشجيع المدرسين علي العمل بمرتبات كريمة كما كان الأمر منذ نصف قرن. اذا ما أصبحت لدينا خطط شاملة للتعليم فالراجح أن الشهادة الجامعية لن تكون مطلوبة بالصورة الحالية لأن التأهيل المهني هو الأفضل وبذلك نخرج من دائرة الاهتمام بالشكل الي جدارة العمل المطلوب لكي تستفيد مصر من ميزة العدد السكاني الكبير, فنحول المشكلة السكانية الي الميزة النسبية المطلوبة من الطاقة البشرية المصرية.