نجح أصحاب الشأن في جرجرة الأمة إلي ما يريدون, وأصبح الانشغال بالتشدد في أمر ديننا خيبة في شأن دنيانا.. مثلما كان الحال عند بني إسرائيل في مرحلة سابقة, عندما شددوا فشدد الله عليهم!. ومن عجب أن تصادف غير واحد منهم ويكون الحديث عن هجوم البحر من الشمال, فإذا به يصيح فيك موبخا إياك بحر إيه وبتاع إيه لن نتنازل عن الدفاع عن دين الله ولن نتواني عن فعل أي شيء من أجل تطبيق شرعه!.. وهكذا الحال إذا كان الحديث عن هجوم الصحراء من الشرق ومن الغرب, وعن الذي يجري في دول منابع النيل من أمور تهدد مصر في صميم وجودها, أو كان الحديث عن الصحة وترديها وأعلي نسب فشل كلوي وكبدي في العالم.. وعن التعليم وتهاويه وعن بقية شئون الدنيا التي أضحي المواطن يئن وينسحق منها!. ولأن أصحاب الشأن ينشغلون بجملة أمور أهمها الانغماس في جدالات لا تنتهي ولا يمكن حسمها حول الشريعة.. ومبادئها.. وأحكامها.. ومقاصدها.. وما هو قطعي الثبوت وقطعي الدلالة.. وما هو مجمع عليه, وما هو مذهب الجمهور والجماعة, وما هو كلي وما هو فرعي, وما هو محرم وما هو مكروه كراهية التحريم أو مكروه فقط, ثم ما يتصل بسن زواج المرأة, ثم شكل ملبسها وشأن صوتها, ثم الالتفاف علي معاني الكلمات, كالأمة والمجتمع والأغلبية, وما شابهها لتصبح نصوص الدستور حمالة للأوجه ومن ثم يتمكنون في أية لحظة من وضع أنفسهم فوق رقاب الناس, يتحكمون في حركاتهم وسكناتهم باسم الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.. لأنهم منشغلون بما سبق فإنك لن تجد فيهم أو منهم عالما من وزن العلماء العظام أمثال شلتوت والمدني وأبي زهرة وخلاف والبهي وشامة وزقزوق وعبد الحليم محمود وغيرهم.. ولن تجد منهم علامة في اللغة وآدابها, ولا أستاذا نابها في العلوم التجريبية له مدرسة معترف بها, ناهيك عن أن ليس فيهم ولا منهم فنان قدير ولا موسيقي بارع ولا رياضي أوليمبي.. وبالطبع لا رسام ولا نحات من أوزان مختار وصبري وطاهر وغيرهم. وربما لا أكون مبالغا إذا قلت إن ما يجري الآن من شغل للمجتمع بتلك المسائل حول الشريعة, يذكرني بما حدث عند أمة سبقتنا وكان ومازال يتعين علينا أن نتعلم ونتدبر دروس التاريخ. فالتاريخ يحدثنا عن الجدل البيزنطي, وقد شاع عند العامة وبعض المتعلمين أنه كان جدل حول الدجاجة والبيضة أيهما كان قبل الآخر, ولكن الصحيح أنه كان جدلا حول طبيعة السيد المسيح له المجد, وكانت بيزنطة منشغلة به في أثناء انعقاد أحد المجامع المسكونية أي المؤتمرات العالمية التي كانت تلتئم لمناقشة وإقرار شئون الكنيسة العالمية, ويحضرها رجال الدين المسيحي من مختلف المذاهب!. وفي ذلك المؤتمر احتدم النقاش حول طبيعة السيد المسيح, وهل هي طبيعة إلهية واحدة أم هي طبيعة بشرية واحدة, أم أنهما طبيعتان, إحداهما إلهية والأخري بشرية, ثم هل السيدة العذراء أم للمسيح من ناحية كونه بشرا أم كونه إلها, ومن ثم هل يجوز تقديسها والصلاة أمام أيقونتها أم لا, ثم هل الروح القدس منبثقة من الأب أم من الابن أم منهما معا؟! وظل الجدل دائرا وبحدة لينتشر في كل الأرجاء, وليحكي أحد المعاصرين وأظنه حنا ذهبي الفم جون كرايزستوم أنه كان يذهب لبائع الخبز أو ساقي الماء فيسألهما بيعه خبزا أو ماء, فإذا بالرد يأتي هل المسيح إله أم بشر وهل العذراء أم له من هذه الطبيعة أم تلك؟!. ويبدو أن الانغماس في هذا الجدل المضني هو الذي جعل أحدهم يقول مؤكدا حتمية غموض اللاهوت: لو سبر الإنسان غموض اللاهوت لما أصبح اللاهوت لاهوتا!. ومعلوم أن بيزنطة ضاعت من بعد ذلك واختفي اسمها.. وحدث ما حدث! فهل يمكن أن يتدبر أصحاب الشأن في مسألة التشدد الديني والتعسير علي خلق الله هذا الدرس وأمثاله من دروس, تلخص ما حاق بأمم سبق ووقعت في المأزق نفسه فكان أن بادت من بعد ما سادت؟!. ثم إن أصحاب الشأن هؤلاء, وأعني بهم حركة الإخوان وجماعات السلفيين ومن سعي مسعاهم, أصبحوا يتصرفون علي طريقة خلالك الجو فبيضي وصفري.. أي أنهم وحدهم في خلاء سياسي لا يجاورهم ولا يجاريهم فيه أحد, دون أن يفطنوا إلي جماعات خلت من قبلهم استبد بها الكبر وهو بالمناسبة أول معصية وقعت لأن إبليس استكبر ولم ينفذ الأمر الإلهي ولعبت برأسها خمر الغطرسة والتفرد, فكان أن عمرها أصبح قصيرا وكان مصيرها زوال النعمة.. نعمة الحكم التي دمرتها نقمة التحكم. إنهم بعد أن يستخدموا سلاح التكفير والتفسيق يلجأون لسلاح التخوين والاتهام بالعمالة المأجورة, ثم يتجاوزون إلي التهوين من شأن الآخر فيرون أن وجوده كعدمه, وأنه لا يقدم ولا يؤخر وأن تصرفاته لا تزيد عن استعراضات إعلامية إعلانية, إلي آخر ما تحتويه منظومة تفكيرهم التي تنم علي إصرار عجيب علي نفي الآخر والرغبة في إعدامه ولو في مخيلتهم, وهو ما سبق وكتبت عنه متقصيا جذوره عن أحمد بن تيمية, وعن حسن البنا ونشره الأهرام في فترة سابقة. إن جدل القاهرة حول الشريعة وما يتصل بها لن يثمر أكثر مما أثمره جدل بيزنطة حول طبيعة السيد المسيح, ولا أكثر مما أثمره جدل بغداد حول القرآن قديم هو أم حادث؟!, ولو كان في القوم أحد رشيد يملك القرار وسلطة التنفيذ لضرب علي أيديهم ولقرعهم قرعا شديدا ولأخذهم في طوابير منضبطة, لتصبح أيديهم هي الأيدي التي يحبها الله ورسوله.. الأيدي الخشنة العاملة غير المتنطعة, وأنني أقترح أن يكون أول طابور هو الذي يتجه لمنع الصحراء الغربية من التهام الرقعة الزراعية.. وبالمرة لنزع الألغام منها. المزيد من مقالات أحمد الجمال