قبل سبعة وعشرين عاما ذهبت مع صديق لي لتسليم نسخة من رسالة الدكتوراه إلي أحد أساتذة اللجنة المشكلة لفحص الرسالة والحكم عليها. أوقف صديقي سيارته حيث انتهي الطريق الممهد بما كان يوما أسفلت وسيرا علي الأقدام أخذتنا الطرقات صعودا وهبوطا علي أرض تنحدر حينا وترتفع أحيانا لنحو عشرين دقيقة. كان الأستاذ الجليل يسكن فيلا جميلة تحيط بها شوارع فسيحة ممهدة بغير رصف خالية من الزحام والسيارات. فقد كانت بعيدة عن العمران في مدينة نصر. ومرت ثماني سنوات كاملة. أخذتني بعدها الأيام لزيارة صديقي في شقته الجديدة. كانت المنطقة مزدحمة بالعمارات الشاهقة التي جعلت من الشوارع حولها حارات ضيقة وخانقة. اشار صديقي إلي بيت صغير يتوسط الأبنية العملاقة وسألني: منذ ثماني سنوات جئنا معا إلي هذا البيت فهل تذكره؟ لم تسعفني الذاكرة ولم اذكر أني جئت إلي هذا المكان من قبل. إنها نفس الفيلا التي كانت بالأمس جميلة تحيط بها الشوارع الفسيحة والتي كانت بعيدة عن العمران. وبعد ست سنوات أخري, وعلي أطراف مدينة نصر نشأت منطقة جديدة جيدة التخطيط واسعة الشوارع قيل وقتها إن اقصي ارتفاع فيها لن يتجاوز ثلاثة أدوار. وصدق البعض الادعاء الذي أطلقته إحدي شركات الإسكان التي كانت حكومية آنذاك لتسويق الأرض بين الراغبين في بناء منازل تجمع شمل الأسر وأبنائها. في سنواتها الأولي تناثرت بعض العمارات ذات الطوابق الثلاثة حتي انتبه المقاولون وتجار الأراضي. وفجأة سمح بارتفاع أربعة طوابق ثم خمسة ثم ستة طوابق. وفي النهاية ظهرت الأحكام القضائية فأطلقت العنان للطوابق ترتفع حتي اثني عشر طابقا. والويل لمن يتجرأ من ذوي الطوابق الثلاثة علي زيادة طابق واحد فهو بفعلته الشنعاء يعترض مسار الطائرات المدنية في هبوطها بأرض مطار القاهرة. أصبحت المنطقة تشكيلة قبيحة من الارتفاعات ثلاثة وأربعة وخمسة وستة واثني عشر طابقا. اثناء زيارتي لأحد اصدقائي الذين اشتروا الوهم من تلك الشركة الحكومية القديمة, وشيد بناء يسكن فيه هو وابناؤه بعد زواجهم. قطع الحديث صوت سارينة مطافئ لم تتوقف فخرجنا نستطلع الأمر. كان سائق المطافئ يستجدي الناس أن يدلوه علي اسم الشارع الذي شب في إحدي عماراته حريق استدعي وجود سيارة المطافئ. اجتهد الناس من حول فريق الإطفاء, وكانت كل النصائح تشير إلي اتجاهات متعارضة تاركة الفريق في حيرة كاملة لا يدري أين يذهب. كان صوت سارينة المطافئ قد أصاب الجميع بالتوتر والقلق الشديد. أخيرا جاء الفرج من شاب يركب دراجة بخارية لحساب سلسلة مطاعم شهيرة. لم يكن الشاب يعرف اسم الشارع ولكنه قال هناك حريق في رابع شارع من هنا. ومضت سيارة الإطفاء لعلها تنقذ ما بقي من حريق كان قد اشتعل قبل ساعة ونصف الساعة علي الأقل. كان من الواضح أن رجال المطافئ ليس لديهم أدني معرفة بشوارع المنطقة أو استخدام الخرائط. وسألت صديقي عن أسماء الشوارع في حي لايقل سعر متر الأرض فيه عن سبعة آلاف جنيه ويصل في بعض الاحيان إلي ستة عشر ألفا. ولا يقل ثمن الشقة الصغيرة فيه عن نصف مليون جنيه. فقال يبدو أن تسمية الشوارع مهمة ثقيلة علي حي مدينة نصر وعلي محافظة القاهرة فأهملتها وتولي الأمر الأهالي. فالشوارع هنا تحمل اسم من سكن المنطقة أولا أو أحد المقاولين من اصحاب الحفارات أو السماسرة أو البوابين. والغريب أن تلك الأسماء وجدت طريقها إلي الخرائط ومواقع البحث عبر الأقمار الصناعية. قلت لصديقي إن الشارع الذي تسكن فيه يحمل اسم علم من أعلام الشعر في الأدب المصري المعاصر. ضحك طويلا, وقال هذا مجرد تشابه في الأسماء. فالشارع يحمل اسم رجل كان أول من سكنه, ولحسن الحظ أنه مشابه لاسم علم من اعلام الأدب. وتحدثنا طويلا عن فوضي أسماء الشوارع. فمحافظة القاهرة التي ضنت علي الكثير من شوارع القاهرة بأسماء تميزها وتعرف بها, كانت بالغة الكرم مع شوارع أخري فقسمت الشارع الواحد إلي اقسام, لكل منها اسم منفصل. مثل شارع الطيران, وشارع مصطفي النحاس وذاكر حسين وغيرها. مشكلة هذا الحي هي مشكلة مصرية تتكرر في كل مناطق مصر. نما المجتمع المصري سريعا وتضاعف حجمه مرات ومرات ولكن قدرتنا علي إدارة هذا النمو ظلت كما كانت بالأمس. نحن نستخدم نفس الأساليب التي كنا نتعامل بها مع مصر وهي20 مليون نسمة لنعالج مشكلات دولة تجاوز عدد سكانها الثمانين مليونا. نتعامل مع القاهرة وكأنها مدينة الملايين الأربعة, وهي الآن تأوي ستة عشر مليونا. نقدر احتياجات الملايين بنفس الأساليب التي كنا نتبعها في تقدير احتياجات مئات الألوف. لقد تغير من حولنا كل شيء إلا أساليب الحكم والإدارة وفهم الواقع المعاش. قبل أربعين عاما كان عدد سكان مصر نصف العدد الحالي. هكذا تقول الأرقام والإحصاءات. وبالتالي فإن هذه الأرقام تشير إلي أننا اليوم نحتاج بتغير مستويات المعيشة إلي اضعاف وليس ضعف ما كنا نحتاج إليه قبل أربعين عاما من الطعام والمياه والكهرباء والصرف الصحي والشوارع والطرق والامتدادات العمرانية, ونحتاج معها إلي تغيير هائل في أساليب إدارة تلك المرافق. تضاعف كل شيء في حياتنا مرات ومرات. تمددت المدن والقري ثلاثة اضعاف حجمها علي الأقل. ازدحمت الشوارع بالمارة والسيارات اضعافا مضاعفة. تزايدت أحمال الكهرباء وكميات مياه الشرب وناتج الصرف الصحي والنفايات الناتجة عن المنازل والمصانع. ولكن قدرتنا علي التعامل مع هذه الزيادات لم تتطور بنفس المعدلات. علي طريق الإسماعيلية محاولة متأخرة لفك اختناق مروري مزمن ساوي في سرعة الحركة بين الدواب والسيارات. المحاولة هي كوبري ينقل حركة المرور بعيدا عن منطقة الاختناق. بدأ العمل في هذا الكوبري قبل ثمانية أشهر. وواقع الحال يشير إلي أن ثمانية أشهر أخري سوف تمر قبل أن تنتهي الشركة من أعمالها لتنهي عذاب مئات الألوف من مستخدمي الطريق يوميا. موقع العمل لايشير إلي أي تغيير قد طرأ علي مفهوم الإنشاءات العامة ووسائل بنائها. الموقع يبدو مترهلا مفككا لايوحي بشيء من اساليب العمل الحديثة. الأتربة في كل مكان وأسياخ الحديد تطل برؤوسها علي ما بقي من الطريق, ومعدات العمل منتشرة بغير نظام. وفي معظم الأوقات يبدو الموقع خربا تخترقه سيارات الميني باص لاختصار الطريق. موقع لايوحي بأساليب عمل قادرة علي الإنجاز السريع. يبدو العقل الاجتماعي المصري أحيانا عاجزا عن استيعاب التغيرات الهائلة التي وقعت خلال العقود الأربعة الماضية في تركيبة المجتمع, والعلاقات السائدة بين افراده وتجمعاته الفرعية. هذا العجز أورثنا عجزا آخر في قراءة الواقع الاجتماعي والثقافي والاستجابة له. والنتيجة هي أننا وقعنا اسري تصوراتنا القديمة عن مجتمع لم يعد له وجود. تكاثرت علينا المشكلات فأقعدتنا عن البحث في حلول لمشكلات صغيرة لاتتطلب جهدا ولا معرفة معقدة, ولكنها قادرة علي تسييرأمور حياة الناس بشكل أفضل. ولكننا اعتدنا حين تظهر مشكلة أن نتجاهلها, فلدينا من المشكلات ما هو أكبر وما هو أكثر. المزيد من مقالات د. حمدي حسن أبوالعينين