منذ سنوات ونحن نتحدث عن مشكلة المرور في القاهرة, ثم اتسع الحديث ليشمل عواصم المحافظات, ثم الطرق التي تربط بينها, وأخيرا أصبح الحديث عن الأزمة المرورية في المراكز ضرورة, ويبدو أن الحديث عن أزمة المرور سوف يستمر حتي يشمل, في القريب, القري والكفور والنجوع . إلا إذا انتقل الوعي بالمشكلة إلي مستوي أشمل من مستوي الوعي الحالي, فمازلنا نبحث عن حلول لمشكلة المرور في جراجات وأماكن انتظار, وقوانين جديدة وعقوبات أكثر, وهي رؤية تري المرور قضية فنية تختص بها الأحياء وهيئات الطرق ووزارة الداخلية, والحقيقة أنها مشكلة مجتمعية, الكل فيها يعاني والكل فيها متسبب, ومشكلة بهذا الحجم لابد أن تتحول فعلا إلي قضية سياسية, كما أشار الدكتور علي الدين هلال في مقال له بالأهرام. ولكني أخشي من تسييس قضية المرور, وأن تخضع للجدل والمناظرات وتبادل الاتهامات علي النحو الذي يعالج به الكثير من قضايانا السياسية الراهنة. وأخشي أن تلقي قضية المرور منا ما لقيته حرية التعبير وحرية الصحافة والتطور الديمقراطي والترشيح للانتخابات. ومهما يكن الأمر, فإن قضية المرور أصبحت في مرحلة لايمكن التعامل معها بالأماني, والتطلع إلي المستقبل ليحلها كيف شاء, فمتوسط السرعة في شوارع القاهرة أصبح أقل من20 كيلو مترا في الساعة, وهو معدل يشير إلي أن الحركة في الشوارع أصبحت ساكنة أو كادت, وفي ظل هذا المعدل المتدني للحركة تهدر موارد وتضيع أعمار وتنهار صحة الإنسان, وتتراجع عائدات السياحة وتنسحب الاستثمارات, وتصبح الفرصة مواتية لسلوكيات لم يعتدها الشارع من قبل. ولم يعد الحديث عن التكدس السكاني سببا منفردا لمشكلة المرور, ولم تعد زيادة السيارات سببا وحيدا, ولم تعد قبضة القانون وحدها كافية للعلاج, ولم يعد اختفاء الجراجات واستخدام الشوارع أماكن للانتظار سببا وحيدا أيضا, فمشكلة المرور أصبحت ظاهرة اجتماعية تستمد أسبابها من روافد عديدة, وهي في النهاية تعبير جماعي عن الكثير من الظواهر السلبية التي تسود حياتنا, وبصفة خاصة علاقة المواطن بالقوانين المنظمة للحياة في المجتمع. منذ عامين تقريبا صدر قانون جديد للمرور, وكان الأمل أن يحد من مساوئ التعامل مع الطرق والشوارع, ولكنه صدر مخففا من العقوبات المقترحة, ولم يتغير شيء, وظل المرور ينتقل من سيئ إلي أسوأ, ولو ظلت العقوبات في القانون مشددة لما تغير الكثير من أوضاع المرور. وهناك محاولات حثيثة للاهتمام بالنقل العام لعل آخرها عندما أطلق د. أحمد نظيف رئيس مجلس الوزراء المرحلة الأولي نحو تغيير أتوبيسات النقل العام المتهالكة التي تسير في شوارع القاهرة بأتوبيسات جديدة ذات مواصفات قياسية نتطلع إلي الحفاظ عليها وصيانتها, حتي لا تتهالك بعد فترة وجيزة وتتحول إلي وسيلة للإزعاج وللتلوث البيئي كما يحدث في الكثير من المواصلات العامة.. كما دعت الحكومة إلي مشاركة القطاع الخاص بسيارات جديدة بنفس المواصفات علي أمل أن تضع حدا لمشكلة المواصلات نفسها في القاهرة ويختفي التاكسي المتهالك ويختفي معه الميكروباص القاتل وغير الآدمي والمسيء ليس للقاهرة وحدها ولكن لمصر كلها, حيث سمحنا بتسيير مركبات بلا أي مواصفات للسيارة أو للعاملين فيها بلا أي متابعة حتي من المرور, حيث تقف السيارات الميكروباص في المنحنيات وفي أي وقت وأي مكان بل وفي أعلي الكباري بلا رقيب أو محاسب.. فأصبحت أداة للجريمة لاوسيلة للنقل, بل عنوانا لفوضي المرور في العاصمة المصرية العريقة. والمرور مثل كثير من الظواهر في حياتنا, نقارنها بما هو سائد في مجتمعات أخري دون أدني استعداد لتحمل الأعباء نفسها التي تفرضها الدول الأخري لتحقيق النظام والانضباط, وإذا كان من حق المواطن المصري أن ينعم بسيولة مرورية, فمن حق الوطن أيضا أن يتحمل هذا المواطن جانبا من الأعباء التي يتطلبها تصحيح الأوضاع.. وهنا تصبح المشكلة سياسية, وتصبح الحلول السياسية ممكنة وواجبة, فالسياسة وحدها هي التي تستطيع أن تنقذ المرور من أن يقع فريسة لتعدد الجهات والمؤسسات وغياب التنسيق بينها.. السياسة هي التي تعطي إدارات المرور الحق في الاعتراض علي تراخيص الأنشطة التي تسبب ارتباكا في المرور وتمارس التضييق علي الشوارع.. السياسة هي التي تعطي إدارات المرور حق إبداء الرأي في مخططات الأحياء والمدن الجديدة, وهي أيضا القادرة علي تغيير مفهوم المواطنة وتعميق الشعور بالحق والواجب, وتأكيد انصياع الجميع للقوانين المنظمة للحياة المدنية. والسياسة أيضا هي القادرة علي إطلاق قدرات المجتمع وإبداعاته, وتحرير العقل المصري من المركزية التي كبلت قدراته وربطته في كل أنحاء البلاد بمشكلات العاصمة المكدسة.. لماذا لاتترك الحرية للمحافظات تختبر أساليب مختلفة للتعامل مع مشكلات المرور فيها. فما يصلح لأسوان قد لايصلح للقاهرة والعكس. ففي عاصمة إحدي أكثر دول المنطقة ثراء تم التدخل لحماية الشوارع, وتم تأجيرها للحد من استخدامها أماكن لانتظار السيارات. وتخلت الدولة عن تحمل خطأ مشتري الوحدات السكنية التي لا يوفر أصحابها أماكن للانتظار. هل يعقل أن يشتري المواطن وحدة سكنية تزيد علي المليون جنيه أو نصف المليون دون وجود مكان واحد لانتظار السيارة؟ نعم هذا ممكن في القاهرة لأن الشوارع متاحة وليس لها صاحب, وليست لها تكلفة, وأساليب تحايل أصحاب العقارات لا نهاية لها, وهكذا تحولت شوارعنا في الأصل إلي أماكن لانتظار السيارات وما بقي منها يستخدم في السير. ............................................................................ قضية المرور أكبر من أن تتولاها اليوم هيئة أو وزارة, وهي بهذا الحجم بحاجة إلي تدخل سياسي يضع المشكلة في نصابها الصحيح, ويفرد للمواطن مساحة من المسئولية والتفاعل معها, بدلا من الشكاوي التي لاتتوقف, وبدلا من الحديث عن اهتمام المسئولين بالمشكلة دون حل.. ومهما تكن الحلول لمشكلة المرور, فإنها في النهاية أقل تكلفة من الخسائر اليومية الناتجة عن استمرار الحركة الساكنة في الشوارع, وعلي الطرق التي أنشئت من أجل أن تكون طرقا سريعة.