كان جاسوسا يعمل خارج البلاد, عندما ضربها زلزال سياسي أسقط نظامها الشيوعي والشمولي, وتقوضت تحت أنقاضه الامبراطورية السوفيتية واختفي الاتحاد السوفيتي من فوق خرائط العالم, وعادت روسيا إلي سيرتها الأولي وأصبح بوريس يلتسين رئيسا. أما الجاسوس فلاديمير بوتين فكان مكلفا منذ 1984 برصد أسرار وأخبار ألمانياالغربية, بالتعاون مع جهاز أمن الدولة سيئ السمعة في ألمانياالشرقية. ولذلك اتخذ من مدينة درسدن مسرحا لعملياته المخابراتية ولأنه كان طموحا ومثابرا فقد كان يحلم دوما بامكان تقدمه. وذات يوم شتوي اضطربت الدنيا من حوله, عندما اندلعت الثورة في ألمانياالشرقية ضد الحكم الشمولي والهيمنة السوفيتية وحطم الثوار ليلة 9 نوفمبر 1989 سور برلين. واندفعوا في رحلة بلا عودة إلي ألمانياالغربية وصار انهيار السور رمزا للثورات الديمقراطية التي اجتاحت أوروبا الشرقية في ذلك العام. ولم تكد تمر أيام حتي هاجم الثوار مركز المخابرات السوفيتية في درسدن وأمضي بوتين أياما عصيبة في تمزيق الوثائق التي يمكن أن تدينه هو وزملاءه. وظل في ألمانياالشرقية حتي انهار الاتحاد السوفيتي وظن أن مستقبله قد تبدد وكان شابا فهو من مواليد 1952 وصدقت هواجسه فما إن عاد إلي موسكو حتي تم الاستغناء عن خدماته في المخابرات. وكابد هو وأسرته شظف العيش, وكان قد تزوج من الفتاة لود ميلا وانجبت ابنتهما الأولي ماشا في منتصف الثمانينيات وتلك كانت أيام الأحلام. لكنها تبدلت علي نحو كان يؤرقه ولا يجد منه مخرجا. لكن المخرج لاح في الأفق في أواخر الفترة الثانية من رئاسة يلتسين وكان قد أفرط في حماقته ورعونته مما ألحق أضرارا بالغة بروسيا فقد جمع الانفلات الأمني وعربدت الجريمة وتدهورت الأوضاع الاقتصادية. وكان الأمر ينطوي علي صفقة سياسية لابد من التزام بوتين ببنودها التزاما صارما وتقضي انضمامه إلي فريق يلتسين توطئة لفوزه في انتخابات الرئاسة مقابل ضمان الخروج الآمن ليلتسين وأفراد أسرته وكبار مساعديه من الكرملين. وقد وافق وأصبح رئيسا. وكرس بوتين كل امكاناته وخبراته في تأسيس نظامه الخاص. وهو نظام يلتصق فيه بالسلطة وتلتصق به. نظام ديكتاتوري ربما لا مثيل له إلا في بعض روايات الواقعية السحرية التي أبدعها أدباء أمريكا اللاتينية. وهنا يشير كاتب روسي هو ليف بوري إلي أن النظام الذي أرساه بوتين لا مكان فيه لفكرة تداول السلطة, ذلك أن القبول بها قد يعني خسارة الأحلام والامتيازات ولذلك اخترع نظامه الخاص لتداول السلطة بينه وبين صديق حميم. يتولي بوتين الرئاسة لفترتين, يكون في خلالها الصديق رئيسا للوزراء ثم يتولي بوتين الرئاسة وهكذا. ولا يحفل بوتين بالمظاهرات المناهضة لنظامه الشمولي والأدهي أنه يمعن في تشديد القبضة الشمولية بسن قوانين لقصف الحريات وفي ذات الوقت تجنح روسيا إلي المواجهة في الخارج, بقصد محاولة تأسيس مراكز نفوذ في مناطق اقليمية مؤثرة. إن ديكتاتورية بوتين ستبقي منذ توليه الرئاسة وحتي الموت إذا لم تطرأ مفاجآت أو متغيرات عاصفة. المزيد من أعمدة محمد عيسي الشرقاوي