يسمونه أمير الساخرين.. ولا عجب في ذلك.. فهو صاحب مدرسة مبتكرة في الكتابة الساخرة.. مدرسة تعتمد علي التداعي الحر للأفكار.. والايجاز الشديد في الكلمات.. وقبل هذا وذاك خفة دم لا حد لها كلماته القليلة تقرأها, فتضحك وتفكر وتتأمل, ثم تحزن علي أحوالنا وما أصابنا, ثم تعاود الابتسام ثانية, وقد أصابتك حالة مزدوجة من المرح والحزن معا. مثل طلقات الرصاص المتتابعة تبدو( لقطاته) و(قفشاته) تصيب الحقيقة في كبد.. وتنال من الهدف مباشرة.. فليس هناك وقت يضيعه في المقدمات والحشو والديباجات والنهايات.. هكذا كان الساخر جلال عامر. يدهشك حقا هذا الرجل اللماح الذي يفوق تأثير عباراته القليلة المعدودة المقالات الطويلة واللقاءات والمؤتمرات والندوات.. إلخ. إذ يكفي أن يلقي بسهام كلماته الموجزة حتي تتبدي الصورة وتسطع أمام عينيك مثل شمس النهار المبهرة.. قلمه الثاقب.. وعيه السياسي.. غيرته علي وطنه.. وخفة ظله تجعل منه حالة خاصة جدا اسمها( جلال عامر). وجلال عامر,1952 2012 ابن ثورة يوليو المجيدة, تنفس بنسائمها, وعاش في رحابها, وتعلم منذ نعومة أظافره, ماذا يعني الوطن, فسكنت مصر بين ضلوعه, وصارت حبه وعشقه الذي لا يفارقه. شارك الرجل في ثلاث حروب, وكان أحد ضباط حرب أكتوبر..1973 كما شارك في ثورة25 يناير2011 وقد فارق الحياة وهو يهتف بالاسكندرية مع المتظاهرين ضد الظلم والفساد. شكلت كتاباته الساخرة رصيدا فكريا أدي إلي ارتفاع الوعي السياسي والدفع إلي إحداث التغيير عبر العمل الثوري. مقالاته الساخرة كانت تعبر عن انحياز واضح للطموحات الكبري للشعب المصري: الديمقراطية, المواطنة, الدولة المدنية, والحرية بالرغم من ذلك تجاوز الانتماءات الحزبية الضيقة, وصارت تعليقاته الساخرة الخبز المشترك لتيارات سياسية متنوعة. في كتابه( قصر الكلام) عن دار الشروق والذي يصدر بعدرحيله, يعيش القارئ في غمار عوالم جلال عامر الساخرة, عبر مقالاته وأعمدته الصحفية التي كتبها خلال سنوات حياته. هذه بعض كلماته: الكتب في أرصفة مظلمة والأحذية في فتارين مضاءة! الذين يرفعون شعار أتكلم براحتك نسوا أن يكملوه ماحدش هيسمعك. أسعد فترة مرت علي البشرية عندما كان آدم وحده, لأنه كان من المستحيل وقتها عقد المؤتمرات أو تشكيل اللجان والهيئات والمجالس التي تسبب تعاسة البشر. كل شيء في مصر ينسي بعد حين لكن كل شيء في مصر يسرق فورا. نحن ديمقراطيون جدا, تبدأ مناقشاتنا بتبادل الآراء في السياسة والاقتصاد وتنتهي بتبادل الآراء في الأم والأب. في مصر لاتوجد محاسبة إلا في كلية التجارة. في مصريد العدالة تنتهي ب صوابع زينب. من الصناعات المصرية تعليب المشروبات وتجميد الخضراوات, وحفظ التحقيقات. في مصر يموت الميت ونصوت عليه, ومع أول انتخابات يعود ويصوت بنفسه. في العيد يتجمع المصريون مرتين, مرة في الصباح لصلاة العيد, ومرة في المساء للتحرش الجنسي. سأل أحد ركاب الأتوبيس الجالس بجواره: إحنا رايحين علي فتنة طائفية أم علي ثورة جياع؟ فرد الرجل: ماعرفش والله, إسال الكمساري. كانت مصر فوق الجميع فأصبحت تحت الحراسة. الحياة ليست نقودا فقط, لكنها اسهم وسندات أيضا. تحول شعار ابحث مع الشرطة إلي ابحث عن الشرطة. ما الدنيا إلا ميدان التحرير. يا الهي ما أصعب هذه الأيام التي تحولت فيها الرياضة إلي حرفة والدين إلي مهنة. أزمة الفكر في مصر أن الأعلي صوتا لايقول شيئا, والأكثر حكمة لا يسمعه أحد. عشق الماضي جعل بيننا وبين جرينتش ليس ساعتين, بل قرنين, في انتظار عودة رفاعة. في بلادنا ناس لها السلك الدبلوماسي وسلك القضاء, وناس لها سلك المواعين. تصريحات تحتاج إلي مواطن له مواصفات خاصة, طويل وأهبل ولابس طرطور. عندنا ألف قرية فقيرة تأكل بالصدفة, وقرية ذكية واحدة تفهم بالعافية. مساحة الحرية تساوي حاصل ضرب عرض المواطن في طول الضابط. عندنا فساد.. تحب تتغدي عندنا؟ أيتها الثورة العظيمة, كم من الجرائم والجرائد ترتكب باسمك. رحم الله أمير الساخرين.