إن للعبادات في الإسلام حكما وأسرارا تنكشف لكل ذي تفكير سليم وعقل راجح ونفس راقية, ويعد الحج من أعظم العبادات أسرارا وأكثرها حكما, تتمثل هذه الأسرار وتلك الحكم في شعائره جميعها من طواف وسعي ووقوف.. إلخ, وتمتد أيضا إلي سائر الشعائر التي ترتبط بالحج وتجمع الأمة الإسلامية تحت لوائها كيوم العيد وأيام التشريق, وأيام التشريق هي الحادي عشر والثاني عشر والثالث عشر من ذي الحجة, وسميت ب التشريق; لكثرة ما ينشر في الشمس من اللحم فيها, وهي أيام ذكر لله تعالي وشكر له, قال صلي الله عليه وسلم: أيام التشريق أيام أكل وشرب وذكر لله(صحيح مسلم/1141), وهي أيام يحرم الصوم فيها لغير الحاج, قال صلي الله عليه وسلم: يوم عرفة, ويوم النحر, وأيام التشريق, عيدنا أهل الإسلام, وهي أيام أكل وشرب(سنن الترمذي/773), وهي الأيام المعدودات المذكورة في قوله تعالي: واذكروا الله في أيام معدودات,البقرة:203]. وقد حث الشرع الشريف علي الإكثار من ذكر الله تعالي في أيام التشريق; حيث يتأكد في هذه الأيام المباركة التكبير المقيد بأدبار الصلوات المكتوبات, والتكبير المطلق في كل وقت إلي غروب شمس اليوم الثالث عشر,وقد امتثل الصحابة لذلك, فقد كان عمر رضي الله عنه يكبر في قبته بمني فيسمعه أهل المسجد فيكبرون, ويكبر أهل الأسواق حتي ترتج مني تكبيرا. وكان ابن عمر رضي الله عنهما يكبر بمني تلك الأيام وخلف الصلوات وعلي فراشه وفي مجلسه وممشاه تلك الأيام جميعا, وكانت ميمونة رضي الله عنها تكبر يوم النحر وكان النساء يكبرن خلف أبان بن عفان وعمر بن عبدالعزيز ليالي التشريق مع الرجال في المساجد.,صحيح البخاري20/2]. وكون هذه الأيام أيام أكل وشرب فيه إشارة إلي أن الأكل في أيام الأعياد والشرب يستعان به علي ذكر الله تعالي وطاعته,وذلك من تمام شكر النعمة أن يستعان بها علي الطاعات, وقد أمر الله تعالي في كتابه بالأكل من الطيبات والشكر له, قال صلي الله عليه وسلم:إن الله ليرضي عن العبد أن يأكل الأكلة فيحمده عليها أو يشرب الشربة فيحمده عليها(صحيح مسلم/2734), فأيام التشريق يجتمع فيها للمؤمنين نعيم أبدانهم بالأكل والشرب, ونعيم قلوبهم بالذكر والشكر, وبذلك تتم النعمة. وفي النهي عن صيام أيام التشريق بعد العمل الصالح في العشر الأول من ذي الحجة لمن لم يحج وبعد أعمال الحج للحاج لفتة إلي حال المؤمنين في الدنيا; فإن الدنيا كلها أيام سفر كأيام الحج,وهي زمان إحرام المؤمن عما حرم الله عليه من الشهوات, فمن صبر في مدة سفره علي إحرامه وكف عن الهوي;فقد قضي تفثه ووفي نذره, وصارت أيامه كلها أيام أكل وشرب وذكر لله عز وجل, وصار في ضيافة الله عز وجل في جواره بجنة الخلد,ولهذا يقال لأهل الجنة: كلوا واشربوا هنيئا بما كنتم تعملون,الطور:19], ويقال لهم: كلوا واشربوا هنيئا بما أسلفتم في الأيام الخالية,الحاقة:24]; فمن صام اليوم عن شهواته أفطر عليها غدا بعد وفاته, ومن تعجل ما حرم عليه من لذاته عوقب بحرمان نصيبه من الجنة وفواته. ومن الطاعات والقربات التي دعا الإسلام إليها في هذه الأيام زيادة الأواصر الاجتماعية; إذ حث الإسلام فيها علي بر الوالدين وصلة الأقارب ومودة الأصدقاء وزيارتهم,فتتزين المجالس بالحب والتراحم والتواد, وتزول الأحقاد والمشاحنات والنفرة من النفوس. إن الأعياد لم تشرع لتكون مناسبات فارغة المحتوي والمضمون من الدلالات الأخلاقية والإنسانية, وإنما جاءت لتكون مظاهر لقيم الإسلام وآدابه وجمالياته المعنوية والحسية, فالأعياد تجدد الروابط الإنسانية, حيث يتجلي السلوك الطيب والأخلاق الحميدة, وتشيع التهاني والقول الحسن بين الناس, ويظهر المسلمون بصفة الرحمة التي هي قوام دينهم, فتتجدد العلاقات الإنسانية وتقوي الروابط الاجتماعية وتنمو القيم الأخلاقية, ويصبح المسلم دعوة مفتوحة لهذا الدين, ونبراسا هاديا لنفوس الحائرين, وبردا وسلاما علي العالمين. ولما يفعله المسلم في أيام التشريق من الذكر والصلة والمودة نفحات تتوالي عليه وهدي من الله ورضوان; فينبغي علي المسلم أن يصطحب هذه النفحات معه في سائر أيامه بعد أيام التشريق واصطحابها يكون بالإتيان بأسبابها من الذكر لله تعالي في كل حال وصلة الأقارب والمودة والرحمة بإخوانه ومواطنيه والامتثال بأوامر الله سبحانه في كل حين لتكون نفحات هذه الأيام نعمة منه تعالي علي المجتمع الإسلامي بأسره وهداية منه تعالي لعباده ورحمة منه ورضوان. فاللهم تقبل منا صالح الأعمال, واجعلها خالصة لوجهك الكريم, وانشر بيننا وحولنا السعادة والحب والطمأنينة والسلام.. وكل عام وكل المصريين والعالم العربي والإسلامي بل كل إنسان بخير ويمن وبركات. المزيد من مقالات د. علي جمعة