عادة ما تتردد في مثل تلك الآونة شائعات في الأوساط القضائية حول مد سن تقاعد القضاة, فما بين الاحتفاظ بكفاءات قضائية مرموقة أكثر مدة ممكنة. وما بين إتاحة الفرصة لغيرهم في تولي المناصب القضائية القيادية, يدور النقاش, ويحتدم أحيانا السجال, وينشر الرأي والحال كذلك ما بين مؤيد ومعارض, ولكل من الفريقين وجاهته سواء في طرحه لمبرراته, أو تفنيده لمبررات الآخر. وأبادر بداية بتصحيح ما ورد من خطأ شائع في العنوان, فهو سن اكتمال عطاء القضاة في محراب القضاء, وليس سن تقاعد القضاة عن العمل والعطاء, وهذا الاكتمال للعطاء المهني للقاضي لا يعني تقاعده عن العمل والعطاء, فلا ينفك عطاء القاضي مستمرا ومتجددا مادامت قدراته العقلية والذهنية مستمرة ومتجددة, وهو ما لا تحده سن, ولا يقيده تقاعد وظيفي, فالذاكرة القضائية شاهدة عيان علي نماذج عديدة من كبار رجال القضاء زاد عطاؤهم, وتوهج فكرهم في ميادين العمل العام, بعد أن اكتمل عطاؤهم القضائي, وأزاحوا عن كواهلهم أعباءه وشواغله. والحقيقة أن الحديث حول سن تقاعد القضاة هو حديث محفوف بالمخاطر, ومدجج بالألغام, فلا تستطيع الوقوف علي منتصف الطريق بين هذا الرأي ولا ذاك!! فإما أن تؤيد أحدهما وبالتالي تعارض الآخر, وإما أن تلتزم الصمت, وهذا الصمت ليس من سمات القاضي, وإلا يعتبر منكرا للعدالة!! مع التسليم بأنني أقف في منتصف الطريق في حياتي القضائية, فقد جاوزت الأربعين بقليل, فلم تحن بعد سن تولي المناصب القضائية الرفيعة. وأعتر ف بأنني من المؤيدين لمد سن تقاعد القضاة باعتبار أن الخطأ الشائع أفضل من الصحيح المهجور وهي السن التي حددها قانون السلطة القضائية الصادر بالقرار بقانون رقم46 لسنة1972 وتعديلاته المتعاقبة( ونظرائه في قوانين الهيئات القضائية الأخري), والتي كان آخرها عام2007 بمد السن إلي سبعين عاما, وكانت سن التقاعد منذ صدور هذا القانون60 سنة, زيدت عام1993 إلي64 سنة ثم إلي66 سنة عام2002, ثم إلي68 عام2003 وهذه التعديلات لمدة خدمة القضاة لها ما يماثلها في بعض الدول العربية والأجنبية, مثل سوريا التي عدلت السن إلي70 سنة عام2006 ومثلها فعلت دولة قطر, والمملكة العربية السعودية عام2007, وفي الجزائر فإن القانون الأساسي للقضاء, يحدد سن التقاعد بالنسبة لجميع القضاة ب60 سنة, ويمكن تمديد خدمة القاضي إلي65 سنة بالنسبة للقضاة العاملين بالمجالس القضائية, وإلي70 سنة بالنسبة للقضاة العاملين بالمحكمة العليا ومجلس الدولة, واللافت للنظر أنه يجوز للمجلس الأعلي للقضاء مد خدمة القضاة الذين يعملون بالمجالس القضائية, بعد سن السبعين!! والنظام الأنجلوساكسوني في أمريكا وبريطانيا لا يعرف سنا لتقاعد القاضي, فالقاضي في المحاكم العليا يجلس علي منصته ويعمل حتي يتوفي أو يطلب الاعتزال, لأنه لا يستطيع الأداء!! ولما كان ما تقدم, فإن تأييدي لمد سن القضاة ليس محدودا بسن معينة لجميع القضاة وإنما مفوض لضمير القاضي وقدرته علي القضاء, باعتبار أن العمل القضائي عمل شاق لا يقوي عليه كثير من القضاة أنفسهم, وأنه تكليف لا تشريف, فهو الذي يختار بإرادة حرة واعية قراره باستمراره في عمله القضائي, وما لا فلا. شأنهم في ذلك شأن أساتذة الجامعات الذين يمتد عطاؤهم العلمي في محاريبهم العلمية ما أبقاهم الله من حياة, ولم لا وهم أرباب الخبرات المتميزة والأفكار البراقة والتاريخ العريق. وفي تقديري فإن الفرصة سانحة هذه الأيام لإعادة دراسة ملف سن تقاعد القضاة برمته, وليس كما درجت عليه التعديلات السابقة بمد السن لمدة أربع سنوات في جولة وحيدة, ثم لمدة سنتين في ثلاث جولات متتالية, ذلك أن تلك التعديلات المتفرقة والمتجزئة أدت في اعتقادي إلي حالة من الترقب والتكهن ليس لها منطق ولا تستند إلي معطيات, مما أتاح الفرصة للشائعات أن تنفذ إلي الأسرة القضائية, تارة بالقول بمد السن وتارة أخري بتخفيضه, دون ضابط أو معيار ينتصر لهذا الرأي أو ذاك. نعم أنا من المؤيدين لمد السن, ولكن بضوابط وشروط محددة وثابتة, أولها: المغايرة في سن التقاعد بين العمل القضائي وهو الجلوس علي منصة القضاء للفصل في النزاعات, وبين العمل الإداري وهو رئاسة الهيئات القضائية أو عضوية مجالسها, وفقا لقاعدة الأقدمية المطلقة التي يقدرها ويحترمها ويخضع لها سائر أعضاء الهيئات القضائية كأمثالهم من ضباط القوات المسلحة والشرطة وأعضاء السلك الدبلوماسي وغيرهم, فلا مشاحة في أن يترأس القاضي هيئة قضائية معينة لمدة زمنية محددة ثم يعود إلي عمله المهني القضائي يباشر فيه مهمته الرئيسية كقاض, الأولي تحدها السن تطبيقا لمبدأ تكافؤ الفرص, والأخري مطلقة لأنها ترتبط برغبة القاضي وقدرته علي العمل والعطاء. ثانيها: عدم تحديد سن للتقاعد لبعض المناصب القضائية, منها علي سبيل المثال منصبا النائب العام ورئيس المحكمة الدستورية العليا, باعتبارهما يمزجان بين العمل القضائي بمفهومه الدقيق و العمل الإداري بمفهومه الواسع, حيث يتطلب فرصة أكبر للبقاء في المنصب تتيح لشاغله الروية والتؤدة والتريث الكافي لإدارته واكتساب الخبرة التراكمية اللازمة لذلك, كما هو الحال مثلا في منصب شيخ الأزهر. أما ثالث وآخر تلك الضوابط في تقديري فهي إعادة النظر في تشكيل واختصاصات مجلس القضاء الأعلي والذي يرأسه قاضي القضاة رئيس محكمة النقض, وهذا المجلس ينفق وقتا طويلا في أمور التعيينات والترقيات والإعارات والانتدابات وغيرها, بحيث يصبح مجلس حكماء للقضاة ينتهي إليه الأمر في شئون رجال القضاء بدون حد أقصي لسن تقاعد رئيسه وأعضائه, وما يستتبعه من تفعيل مجلس محاكم الاستئناف, واستحداث مجلس جديد لمحكمة النقض وآخر للمحاكم الابتدائية, فضلا عن مجلس للنيابة العامة يتولي كافة إجراءات مقابلات وتعيين معاوني النيابة العامة, وتتحدد مدة زمنية معينة لتلك المجالس( ثلاث سنوات مثلا) تحقيقا لمبدأ تكافؤ الفرص, ثم يعود أعضائها من بعدها يباشرون مهمتهم القضائية للفصل في الأقضية بين المتقاضين, ويتولي كل منها شئون أعضائه في ظل وجود الأمانة العامة لمجلس القضاء الأعلي للتنسيق بين تلك المجالس, ثم تعرض تقارير تلك المجالس علي مجلس القضاء الأعلي للبت فيها, توحيدا لمبادئها وقواعد القرار فيها, ثم الفصل فيما عساه أن يطعن عليه من تلك القرارات, وبهذا يتحقق وصفه بأنه مجلس أعلي.. فهل تحمل لنا الأيام المقبلة شيئا من ذلك؟!