في تحليل اسم' مصر' ومترادفاته القديمة, وكما ذكرت في مقالي السابق, تكاد الآراء تجمع علي اعتباره لفظا ساميا أطلقه جيران مصر يحمل معاني الحدود والحواجز والأسوار وصفات الحصانة والحماية والتمدين. وتبدو مثل هذه التسمية مفهومة, حيث شيد فراعنة مصر الحصون والأسوار لحماية حدودها منذ فجر التاريخ المكتوب, بدءا من شمال سيناء عند رفح وحتي جنوب النوبة عند حلفا, وهو ما جسد صورة مصر في عيون جيرانها. لكن مصر في عيون المصريين كانت التربة الخصبة والغرين الدسم والزرع الكثيف, فأطلق أجدادهم الأوائل علي أرضها اسم' كيمة' بمعني السوداء والسمراء والخمرية, رمزا منهم إلي لون تربتها وغرينها وزرعها. ويقول الدكتور عبد العزيز صالح, أستاذ تاريخ مصر والشرق القديم وعميد كلية الآثار الأسبق بجامعة القاهرة, في كتابه' حضارة مصر القديمة وآثارها' ان المصريين القدماء قد جعلوا لاسم مصر مشتقات عدة تؤدي معناه, فقالوا' باتانكيمة' أي أرض السواد أو أرض السمرة, وقالوا' تانكيمة' بمعني أرضنا السوداء. كما أطلقوا علي الصحراء المحيطة بها اسم' دشرة' بمعني الحمراء, إشارة منهم إلي شدة جدبها, إضافة الي نعوت أخري تؤدي معاني الخلاء والقفر والبادية. كما تعددت أسماء مصر القديمة إلي جانب اسم كيمة, فمن أقدم أسماء مصر وأكثرها شيوعا في ألقاب الفراعنة ومتونهم الرسمية, اسم' تاوي' بمعني الأرضين, أرض الصعيد' تاشمعو' وأرض الوجه البحري' تامحو', حيث تأثروا باستقلال كل منهما بأوضاعه السياسية قبل بداية عصر الأسرات. وظلت صلات مصر بالنيل والفيضان والزراعة لا تنفصم في تصورات المصريين عن أرضهم وتسمياتهم لها, فعبر كتابهم عنها باسم' إيدبوي', أي الضفتين أو أرض الضفتين, اعترافا منهم بتركز عمرانها علي جانبي نيلها العظيم. وذكروها باسم' تامري', ويحتمل أنه كان يعني أرض الفلاحة أو أرض الحياض, وقد تكون له صلة باسم الدميرة الذي أطلقه المزارعون في الريف قبل بناء السد العالي علي الأرض التي تغمرها مياه الفيضان! ولم يكتف المصريون القدماء بالتعبير عن مصر بأوصافها الطبيعية, وإنما أضفي أدباؤهم عليها نعوتا شعرية ممتعة, فوصفوها بأنها' إيرة رع' أي عين الشمس أو عين رب الشمس, وسموها' باقة' بمعني الزيتونة كناية عن خضرتها الدائنة, وسموها' وجاة' بمعني السليمة أو المحروسة! ولا يخلو من دلالة أنهم ظلوا أكثر حرصا علي وصفها بنعوتها الشعرية طوال عهود المحن السياسية, التي حلت بها في عصورها المتأخرة علي أيدي الفرس والإغريق والرومان, تأكيدا منهم لاعتزازهم بها. ونسب المصريون القدماء أنفسهم إلي بلدهم, فقالوا إنهم' كيمتيو' أي أهل كيمة, وردد أدباؤهم أن شعبهم هو شعب الشمس, والشعب النبيل, وشعب السماء, وشعب الإله, وادعوا أنهم صور من ربهم الأكبر تشكلوا من لحمه, وخلقوا من عينيه, ونزلوا مع دموعه. واعتبر المصريون القدماء أنفسهم أمة قائمة بذاتها. ولم يعترفوا صراحة بفترات الاختلاط الجنسي القديم إلا في مرات قليلة, وهو اختلاط لم يبرأ من مثله شعب قديم علي الإطلاق. واعتاد المصريون القدماء علي أن يطلقوا علي أنفسهم اسم' رمث' بمعني الناس, وأوشكوا أن يقصروا هذه التسمية علي أنفسهم, وكأنهم اعتبروا من دونهم من الخلق أقل إنسانية منهم. ولم يكن ذلك غريبا عليهم بعد ما لمسوه من رقي حضارتهم عن حضارات الشعوب المحيطة بهم. ولم يكن غريبا كذلك عن منطق بقية الأمم المتحضرة القديمة التي عاصرتهم والتي أعقبتهم في الزمن. فقد فكر أهل بلاد النهرين مثل تفكيرهم في عهود قوتهم, واعتبر كل من الإغريق والرومان كل من عداهم من الخلق برابرة, وعلي ذات النحو زعم أهل التوراة القدامي أنهم شعب الله المختار, وناهيك أخيرا بما ظنه الألمان في أنفسهم. ولم تكن تسمية فرعون وفراعنة تدل علي جنس بعينه, حيث' فرعون' لقب محدود الدلالة, وصيغته المصرية القديمة' برعو' عبارة تعني البيت العالي, أو البيت العظيم, وكانت عبارة أشار المصريون بها منذ عصور الدولة القديمة إلي قصور فراعنتهم التي تركزت فيها السلطات العليا لدولتهم, ثم رمزوا باللقب إلي ملوكهم منذ عصور دولتهم الحديثة وأصبحوا يقولون' برعو' خرج وحارب وانتصر! وشيئا فشيئا اعتاد المصريون وجيرانهم علي أن يطلقوا لقب' برعو', وصيغة العربية' فرعون' بعد إضافة نون أخيرة, وصيغته المصرية علي كل ملك مصري إلي جانب اسمه الشخصي, منذ القرن العاشر ق.م علي وجه التقريب. ويمكن تفسير منطق قدماء المصريين بمنطق الأتراك العثمانيين, الذين أعقبوهم بآلاف السنين وسموا قصر السلطنة والسلطان نفسه باسم' الباب العالي', وبمنطق الصحفيين المعاصرين حين يشيرون الي البيت الأبيض ويعنون الرؤساء الأمريكيين المقيمين فيه. وإذا كان العالم الخارجي قد ردد اسمين لمصر قلما رددهما المصريون القدماء, وهما: اسم مصر ومترادفاته, واسم آيجوبتوس ومترادفاته. وظاهرة تسمية بلد باسم قلما يستخدمه أهله نراه في تسمية الألماني في اللغات الإنجليزية والفرنسية والإيطالية مثلا يختلف تسميته في وطنه, فان اسم' مصر', كما يقول الدكتور عبد العزيز صالح, قد يكون صورة لفظية ومعنوية للكلمة المصرية القديمة' مجر' التي تعني' الدرء' أو البلد' المكنون', حيث أدي حرف الجيم في الكتابة المصرية القديمة أغراض حرف الصاد. وأن أقرب المسميات المصرية المحتملة إلي اسم' آيجوبتوس' هو اسم آجبي ومترادفاته, بمعني النيل والفيضان وربما الأرض المغمورة بالفيضان أيضا, وذلك علي نحو ما عبر الإغريق باسم' آيجوبتوس' عن النيل وأرض النيل معا. ولا تزال لبانة المجتمع المصري الحالي هي لبانة المجتمع المصري القديم من حيث الدم والهيئة والقامة ولون البشرة مع كل ما فيها من فوارق ضمنية في الخلقة بين فرد وآخر, وفوارق إقليمية بين البحاروة والصعايدة. وإذا كانت قد تعاقبت علي أرضنا عهود قديمة احتلها فيها فرس وإغريق ورومان فالذي لا شك فيه هو أن الاختلاط الجنسي بين أولئك الدخلاء وبين المصريين كان محدودا للغاية, سواء نتيجة لغرور الأجانب المحتلين الذين اعتبروا أنفسهم سادة حاكمين, أو لتباعد أغلب المصريين عنهم اتقاء لغرورهم وعتوهم واختلاف جنسهم وغرابة لغتهم واختلاف عقائدهم ومذاهبهم, فيما خلا القلة القليلة من الموظفين الكبار وأشباه الكبار الذين عاشروهم في المدن وشاركوهم نصيبا من السلطة التنفيذية! وقد وجدت قلة قليلة من المصريين في العصور المسيحية في نصرانية بعض الأجانب المنبثين في الريف والمستقرين فيه ما شجعهم علي الاختلاط بهم والتزاوج معهم ومبادلتهم أسماءهم بأسمائهم. وحين فتح العرب مصر في بداية ظهور الإسلام, ظل أهل البداوة منهم قليلي التزاوج مع المزارعين المصريين, واقتصر تأثيرهم الجنسي وتأثرهم الجنسي علي من شاركوهم معايشهم من البدو المصريين. وهكذا تجنب غالبية المصريين انقسام الشخصية, سواء حين آمنت بالمسيحية أو حين آمنت بالإسلام, وظل كل من نزلوها أعدادا مضافة إلي لبانتها دون أن يكونوا عوامل تغيير في قوميتها. ولا تزال مصر القديمة- كما يفصل الدكتور صالح- حية في مجتمعنا المعاصر وفي أوساطه الشعبية والريفية علي وجه الخصوص, بروحها وعاداتها, وجلدها وإيمانها, وأخلاقها وطباعها, وبساطتها وتسامحها, ولا تزال علي تقاليدها القديمة من حيث تفضيل الزواج المبكر, ومعاني الألفاظ التي تعبر عن الزوجة, ومن حيث الرضا بكثرة الأولاد, ومعاني أسماء الأطفال, وألعاب الأولاد والبنات, ومن حيث إصرار الأب علي سلطانه علي أبنائه, ومن حيث عادات الوضع في الأوساط الشعبية, وعادات التطهر والختان, ثم من حيث الميل إلي التدين والسماحة وخوف الحساب, والتوكل علي الخالق, والتماس كرامات الأولياء! [email protected]