يوم للأندلس في بيت السناري.. حكاية تراثية جديدة يشهدها ذلك البيت العريق, جار ام هاشم منذ عام 1794 عندما قرر إبراهيم كتخدا السناري أن يستقر في بيت خاص علي عادة كبار التجار عسي أن تبتسم له الحياة بعد عناء مرير. ولكن ما ان اتم البيت حتي احتلته الحملة الفرنسية لتصبح قضيته الوحيدة هي استرجاعه وهو ما لم يحدث إلا قبل وفاته بأشهر قليلة. نفس البيت تعتبره اليوم مكتبة الإسكندرية بيت العلوم والثقافة والفنون في القاهرة المرتبط بها, فاختارته لتتردد فيه وليوم كامل امتد للتاسعة مساء أصوات لباحثين وشعراء وأثريين يقرأون قصائد وموشحات وأدب ورسائل تنتمي لزمان الوصل بالأندلس, في يوم حافل هو ثمرة جهد مشترك مع مؤسسة البابطين. والمفارقة ان هذا البيت- بغربته المعمارية عن محيطه-هو نفسه, وهو يحتفي بالأندلس, من يذكرنا بمرور خمسمائة وعشرين عاما علي سقوط غرناطة آخر معاقل المسلمين في الأندلس وانتهاء ملك بني نصر من ملوك الطوائف بهزيمة أبو عبد الله ملك غرناطة الذي قالت له أمه' ابك مثل النساء ملكا مضاعا لم تحافظ عليه مثل الرجال' واستسلم بعدها بأعوام في مكان بغرناطة يطلق عليه اسم زفرة العربي الأخيرة. فالحديث عن الأندلس يشبه بيت السناري إلي حد كبير... فكلاهما مثال لنموذج حضاري لم يعد إلا حلما. والحكي مستفيض عن الأندلس وبيوتها وطرقاتها بأدق تفاصيلها فلم يهمل المحاضرون شيئا: الشعر والرسائل والموشحات والعمارة الإسلامية و حتي النقود. فالواضح انهم كانوا علي موعد لاستعادة زمان الوصل من كل جوانبه, واحد من هؤلاء كان د. أيمن ميدان, أستاذ الأدب بدار العلوم ويتعاون ثقافيا في الوقت الحالي مع أنشطة' البابطين'. تحدث عن الأندلس بوصفها كيانا لا ينفصل عنه. ففي طفولته كان يسمع من والده اشعار ابن زيدون, وفي كلية دار العلوم التي اختارها له والده التقي بأساتذته الطاهر مكي وأحد هيكل ومحمود مكي وصلاح فضل ومحمد زكريا عناني و أبو همام فكانت رسالته للدكتوراة حول' اتجاهات الشعر في مملكة غرناطة' التي كان أبطالها لسان الدين بن الخطيب وابن زمرك وابن الجيار حيث وجد لديهم فهم عميق لمقومات الشعر العربي الذي كان قد دخل في نفق مظلم في الشرق عقب سقوط بغداد. أما هذا الفهم العميق فهو رصيد لعلاقة الأندلس بالمشرق الإسلامي والتي مرت-كما يقول- بثلاث مراحل. أولها كان مرحلة الانجذاب المنبهر بالمشرق, وأعقبتها مرحلة ثانية من بداية نضج الشخصية الأندلسية وتأرجح الأندلسيين بين الإعجاب بالنموذج المشرقي والاحتفاظ بالشخصية المنفردة لنصل أخيرا إلي الشخصية الأندلسية بكل إبداعها. وبالنظر في كتاب' الذخيرة' الحاضن للكثير من التراث الأندلسي نجد المتنبي حاضرا في الأندلس ولم يحدث حوله إختلاف كما حدث له في المشرق. فالرجل كان متعاليا ومعتدا بذاته, ولكن ما حدث في الأندلس أن المتنبي لم يذهب بشخصه لنتفق أو نختلف معه ولكنه ذهب كمبدع كبير استوحوا شعره نصا بطريقة تثير الدهشة. أما أبو العلاء المعري فهو متعدد الملامح الابداعية كشاعر وناقد وكاتب وكان من أوائل الشعراء الذين ظهر ابداعهم في دواوين تحمل عناوين توحي بالمضمون. وقد كان مؤثرا في الحركة الأدبية الأندلسية و صاحب حضور طاغ وموقف ونظرة فلسفية. فعارضه- والمعارضة'في التراث تعني التقليد او الاستلهام- المبدعون الأندلسيون في كل رسائله. وعن إسهام الأندلس الشعري يقول: لابن زيدون كشاعر مكانة خاصة تعود بالذات لموسيقي شعره وهو بذلك يشبه البحتري في المشرق.. وهو كشاعر يعرف كيف يوظف الألوان, وهو العاشق الأندلسي الذي يستحضر صورة ليلي وهند بمواصفات جمالهما الشرقي عندما يصف ولادة بنت المستكفي الشقراء التي تتمازج لديها الدماء العربية والاسبانية. أما ما يلفت الانتباه في غرناطة فهو وجود مجموعة من الشعراء المبدعين الذين ضاعت قصائدهم عند سقوط غرناطة فلو قرأنا للشريف الغرناطي لوجدنا أن جذوة الشعر كانت مشتعلة علي عكس ما أشار المؤرخون الاسبان. عندما يصبح للسجون أدب ويعتقد د. بسيم عبد العظيم الاستاذ بأداب المنوفية ان هناك لونا آخر من الإبداع لابد من التوقف عنده:وهو أدب السجون في الأندلس. فالسياسة لعبة خطيرة و هناك شعراء دخلوا السجن بسبب الانتقاد السياسي, ومنهم الرمادي الذي كون خلية سرية ووزع منشورات تهاجم الحاكم فسجن وطال سجنه فألف كتابا سماه' كتاب الطير' يذكر فيه صفات الطير- الذي بالتأكيد مثل له في ذلك الوقت رمزا للبراح والحرية- وينهيه بمدح لحكم المستنصر. مثال آخر هو الفقيه أبو محمد علي بن أحمد بن سعيد بن حزم الامام الذي كان أبوه وزيرا للمنصور ثم أصبح وزيرا في عهد عبد الرحمن المستظهر ثم سجنه يحيي بن علي الذي اعتلي عرش قرطبة لاتهامه بالميل للامويين. أما ابن زيدون الوزير العاشق فقد كان يلتمس مرضاة الحاكم ابن جهور بالمدح, ومع هذا لم يبال ابن جهور بمدائحه حين أدخل الوشاة في روعه ان الشاعر يعمل خفية علي خيانته ورد الامر لبني أمية. فلم يلبث ان لفق له تهمة وسجنه ولم يقبل فيه شفاعة. أما أكبر اسباب سجن ابن زيدون فهو حسد الحاشية وتأذيهم من نبوغه وعنفه في الرد عليهم فقد كان ابن زيدون علي قدر من الغرور فخسر المعركة و حوكم في تهمة لا تمت إلي السياسة بصلة وبالغوا في إيذائه حين حشروه مع المجرمين والسفلة ولما أستبطأ عفو ابن جهور خاطبه بقصيدة مطلعها: ألم يأن أن يبكي الغمام علي مثلي ويطلب ثأري البرق منصلت النصل فسجن الشعراء والمبدعين في الأندلس كان لأسباب سياسية أو دينية أو خيانة الأمانة وتبديد المال العام وأسباب العشق أو لأسباب مجهولة. وتحدث د. حافظ المغربي الأستاذ بكلية دار العلوم بجامعة المنيا عن جماليات القصيدة الأندلسية حيث انه طبقا لرؤيته لم يظلم تراث في الأندلس بقدر ما ظلمت القصيدة الأندلسية. فبالرغم من كثرة ما يدفع في أرحام المطابع حول الأدب الأندلسي بصفة عامة تظل كنوز من النصوص الأندلسية مطمورة في غياهب النسيان. ويضيف المغربي: في بحثي توقفت عند شاعرين, أولهما ابن زيدون الذي أعتبره واحدا من أبناء الرومانسية الباكرة الذي أوغل في عالم تجريدي يحفظ للمرأة كرامتها فلا يحول قصائده لغزل يقتصر للجانب الروحاني. ويكفي أن نقرأ له مطلع قصيدته: أضحي التنائي بديلا عن تدانينا وناب عن طيب لقيانا تجافينا ........... سران في خاطر الظلماء يكتمنا حتي يكاد لسان الصبح يفشينا أما الشاعر الآخر فهو صوت المعارضة بلا منازع في الشعر الأندلسي. وقد سكت المؤرخون عنه لدواع سياسية. هذا الشاعر هو السميسر الأندلسي. يكفي أن نستمع لهذين البيتين الساخرين حتي نعتقد أننا أمام شاعر في القرن الواحد والعشرين حين يصف البرابرة الذين حكموا غرناطة: رأيت آدم في نومي فقلت له: أب البرية ان الناس قد حكموا ان البرابرة جنس منك قال إذا حواء طالقة إن صح ما زعموا وأما العمارة الإسلامية في الأندلس فقد تحدث عنها د. محمد الكحلاوي الأمين العام لاتحاد الأثريين العرب في بحث بعنوان' الإبهار في الفن الإسلامي إبان حروب الاسترداد' ويجيء العنوان كاقتباس من بحث للدكتور حسن الباشا تحت مسمي' الإبهار في الفن الاسلامي إبان الحروب الصليبية' الذي نعرف من صفحاته أن أجمل تحف في الفن الإسلامي أنتجتها يد الفنان العربي في زمن احتلال الصليبيين للبلاد. وهكذا في الأندلس جاء الإبهار في الفن الإسلامي في الأندلس في الوقت التي كانت تشهد فيه الأندلس ما يعرف بحروب الاسترداد للمدن الإسلامية. وعن' جامع قرطبة' يقول إنه مر بخمس مراحل حتي وصل إلي قمة النضج المعماري موضحا التغيرات التي طرأت علي الجامع عند تحويله لكنيسة حيث تحولت المئذنة إلي برج أجراس وان بقيت بعض الأشياء التي لم تتغير من ملامح الجامع الأصلي كالمئذنة و صحون اللارنج و هو ما يميز العمارة الأندلسية. ولم يسعدنا الحظ لتغطية أوراق د. عبد اللطيف عبد الحليم عن' الجهود العربية التي بذلت لإحياء الأدب والتراث الأندلسي', وبحث د. محمد زكريا عناني عن' الموشحات الأندلسية', ود. صلاح فضل عن' النموذج الحضاري للأندلس', ومحاضرة د. طاهر مكي القيمة.وانتهي اليوم الحافل بإعلان مكتبة الإسكندرية بأنها قد عقدت النية علي أن يشهد بيت السناري مؤتمرا سنويا للدراسات الأندلسية.