تتصاعد هذه الأيام دعوة لسن تشريع دولي يجرم انتهاك العقائد ويلزم الكافة باحترامها, وأظن ان مثل تلك الدعوة التي لاشك في نبلها, فضلا عن ضرورتها, تطرح علينا عددا من التساؤلات: هل تقتصر الدعوة علي احترام عقائد أصحاب الديانات السماوية الثلاث فحسب؟ أم تشمل العقائد الدينية جميعا؟ أم تتسع لتشمل تلك العقائد التي تعتبر منحرفة أو منشقة عن دين سماوي؟ أم انها يمكن ان تزداد اتساعا لتشمل العقائد الفكرية جميعا, ومنها بداهة ما قد يتعارض مع الأديان جميعا؟. ما المقصود باحترام عقائد الآخرين؟ هل المقصود هو عدم إيذاء مشاعرهم العقائدية؟ اذا كان الأمر كذلك, فما هي الحدود بين ما أعتبره مجرد تعبير علني عن عقائد الآخرين, وما أعتبره اجتراء علي عقيدتي؟ هل يمكن ان نتصور خطابا دينيا ايا كان لايتضمن دعوة للدخول في هذا الدين باعتباره الدين الأفضل؟ ماهو الخط الفاصل لاعتبار مثل هذا الخطاب قد تجاوز حدوده وأصبح مؤذيا لمشاعر الآخرين العقائدية؟ هل استماعي مثلا لفكرة تأليه السيد المسيح باعتباره ابن الله يدخل في نطاق ايذاء مشاعري كمسلم؟ وهل تأكيد الخطاب الاسلامي علي نفي تلك الالوهية يعتبر ايذاء لمشاعر المسيحيين؟ وهل المطلوب إذن ان يقوم دعاة كل دين بتنقية خطابهم الديني مما يعتبره الآخرون جرحا لعقائدهم حتي لو اقتضت تلك التنقية حذفا لاركان أساسية من العقيدة الدينية لكل طرف؟ هل التوسع في اقامة الكنائس وارتفاع أصوات التراتيل والقداس والأجراس يجرح مشاعرنا كمسلمين مما يقتضي وضع الضوابط لبناء تلك الكنائس باعتباره التزاما اسلاميا واجبا؟ هل ارتفاع مكبرات الصوت بالأذان وبخطبة الجمعة يجرح المشاعر العقائدية المسيحية, ومن ثم ينبغي البحث عن حل يتلافي مثل ذلك الجرح؟ هل رؤية الصلبان والمآذن يمكن ان تثير حرجا دينيا؟ هل المطلوب ان تصمت أصوات الآذان ودقات الأجراس وخطب صلاة الجمعة والتراتيل الكنسية, وان تختفي المآذن وأبراج الكنائس؟ ام ان المطلوب تنظيم استخدام مكبرات الصوت عامة, وتنظيم بناء دور العبادة كاجراءات قانونية مدنية؟ هل يمكن للخروج من المأزق تبني خطابين, خطاب هامس يتداوله الاتباع والمريدون بحيث لايتجاوز حدود المساجد والكنائس, وخطاب مسموع ينتج خصيصا للتصدير ويوجه للجميع ملتزما بتجنب ايذاء المشاعر العقائدية للجميع؟ ألا يتعارض ذلك مع جوهر الديانات العالمية التي يحمل أتباعها مهمة إبلاغ رسالتها للناس جميعا؟ وفضلا عن ذلك فان الأمر برمته مستحيل التنفيذ عمليا في عالم لم يعد فيه مكان او امكانية لازدواجية الخطاب الاعلامي. هل من الممكن مثلا إغلاق مصادر التشكيك في العقائد بتحريم الاطلاع علي الفكر العقائدي للآخرين, فاذا لم يكن بد من التعرف علي عقائد الآخرين فليكن من خلال عرضها من وجهة نظر الفكر المقابل فنتعرف مثلا علي الفكر المسيحي من خلال الكتابات الاسلامية, ويتعرف المسيحيون علي الفكر الاسلامي من خلال كتابات مسيحية, ولكن هل مازال ذلك ممكنا في عالم اليوم, حيث يستطيع الجميع بث وتلقي جميع ألوان الطيف من دعوات تبشر وتدعو لجميع العقائد والمعتقدات علي مختلف الأقمار الصناعية فضلا عن الإنترنت؟ هل يمكن الاحتكام إلي ديانة غالبية سكان الدولة بحيث يقبل الجميع بخفوت الصوت الاسلامي في الدول ذات الغالبية المسيحية وخفوت الصوت المسيحي في الدول ذات الغالبية الاسلامية؟ ألم يحن الوقت بعد لوضع حد للفزع من امكانية تأثير الدعايات المضادة علي ثبات العقيدة الدينية رغم حقيقة ان انفتاح السماوات الاعلامية جعل الجميع يجادل الجميع في كل شيء بلا حدود دون ان تحدث كارثة عقائدية لاي طرف؟ ألم يحن الوقت بعد للتسليم بحقيقة انه مهما كان حجم الاغواء والتهديد فسوف تظل الغالبية الغالبة من المسلمين والمسيحيين في بلادنا علي ديانتهم, وانه لو وجدت في مصر مليون بعثة تبشيرية مسيحية, او مليون جماعة اسلامية تدعو المسيحيين إلي الاسلام فلن يتغير من جوهر الأمر شيء؟ هل لنا ان نفكر في حماية عقائدنا بأسلوب جديد يضمن الحفاظ علي العقيدة في ظل تعرض لا مفر منه لفكر مناقض لها بان نربي أطفالنا وندرب أنفسنا ايضا علي التسليم بأننا لسنا وحدنا في هذا العالم, وأن مجموعنا نحن المؤمنين بالديانات السماوية الثلاث لايتجاوز نصف البشر, حيث يبلغ عدد المسلمين نحو المليار, ويعتنق المسيحية نحو المليارين, إلي جانب عدة ملايين من اليهود, ويبقي مايزيد علي ثلاثة مليارات من غير المؤمنين, وأن مقياس الأفضلية هو ان نكون القدوة للآخرين في الخلق والعلم والسلوك؟ وأخيرا إن علينا ان نتفق أولا فيما بيننا علي ملامح ما ندعو إليه, وأن نعلنه علي الملأ, وان نمارسه عمليا, لنكون بمثابة القدوة للآخرين سعيا نحو عالم يسوده احترام حقيقي ومتبادل للعقائد جميعا, وإلا فسوف تكون السيادة لقانون الغابة بحيث يفرض الطرف الأقوي رؤيته علي الجميع. استدراك ضروري قد يظن القارئ أن هذه السطور قد كتبت في مناخ الثورة علي الفيلم المسيء للرسول عليه الصلاة و السلام, و لكنها للحقيقة سطور قديمة سبق نشرها بنصها في هذا المكان بالأهرام في23 مارس2006 أي منذ أكثر من ستة أعوام تحت عنوان الدعوة لاحترام العقائد في مناخ الثورة آنذاك علي نشر رسوم كاريكاتيرية مسيئة لشخصية الرسول عليه الصلاة و السلام. تري هل كتب علينا أن نعود كل بضع سنوات لنطرح التساؤلات ذاتها دون أن نجيب عنها؟ [email protected] المزيد من مقالات د. قدري حفني