مع كامل التقدير والاحترام للمشاعر المتوقدة والنبيلة التي دفعت جانبا من المسلمين في مصر وفي غيرها من الأقطار العربية والإسلامية للتظاهر , تعبيرا عن الغضب الشديد من انتاج ونشر الفيلم المسيء للرسول صلي الله عليه وسلم علي شبكة الإنترنت. وهي المشاعر التي جعلت كل مسلمي العالم وجانبا كبيرا من مسيحييه يستنكرون مثل هذا الفعل الأثيم. ومع التسليم المطلق بحق المسلمين ومن تعاطف معهم من إخوانهم المسيحيين في التظاهر السلمي تعبيرا عن الرفض التام والغضب الشديد من هذه الجريمة الشنعاء, وحقهم كذلك في اتخاذ ما يرونه من إجراءات سلمية أخري خلاف التظاهر كرفع الدعاوي القضائية بحق منتجي الفيلم وممثليه والقائمين عليه, وكمقاطعة السلع الأمريكية إذا لم تقم الولاياتالمتحدة بما ينبغي عليها في مثل هذا السياق من إجراءات قد يوفرها قانونها الداخلي لمعالجة مثل هذه المواقف, والتي لم يكلف قادتها أنفسهم عناء استنكار ورفض هذه الجريمة تحت دعوي أن الدولة الأمريكية لا علاقة لها بالفيلم المسيء وأنها لا تستطيع الحجر علي حرية الرأي والتعبير. ومع الأخذ بعين الاعتبار أن المساس بالأديان والمقدسات وازدرائها جريمة نكراء تهدد التعايش بين البشر المنتمين إلي أديان مختلفة, وتهدد بالتالي السلم والأمن والاستقرار الدولي, وهو ما يستوجب تدخلا سريعا من المجتمع الدولي ممثلا في منظمة الأممالمتحدة نحو عقد اتفاقية دولية يتم بمقتضاها تجريم ازدراء الأديان والعقاب عليه بشكل رادع, وبحيث لا يسمح لدولة أن تتحلل من التجريم والعقاب عليه تحت دعوي انتصارها لحرية الرأي والتعبير. فمن غير المقبول أن تنص قوانين بعض الدول علي احترام السلطة أو الذات الملكية أو النظام العام مثلا وتتجاهل ازدراء الأديان أو الرسل أو الكتب المقدسة, ومن غير المعقول أن تصدر بعض الدول الغربية قوانين تحاكم معاداة السامية أو من ينكرون مجرد إنكار ما يسمي بمحارق الهولوكست, وهي التي تم محاكمة الفليسوف الفرنسي المسلم الأشهر روجيه جارودي في بلاده استنادا إليها علي سبيل المثال, وتتغاضي هذه الدول في ذات الوقت عمن يتطاولون علي الديانات والرسل تحت ادعاء حرية التعبير دون الأخذ بعين الاعتبار مشاعر اتباع هذه الديانات. وهنا قد يكون من المفيد أن تنص الدول في قوانينها الداخلية علي أن جريمة ازدراء الأديان هي مما لا تسقط بالتقادم ومما تنطبق عليها فكرة الاختصاص العالمي, بمعني جواز المحاكمة عليها وتوقيع العقاب حال ثبوت الجرم ولو تم هذا الجرم خارج أراضي الدولة ومن غير رعاياها, كما هو حال بعض الجرائم الشديدة بحق الإنسان كجريمة الإبادة الجماعية وجرائم الحرب والتي تنص قوانين بعض الدول الغربية أساسا علي الاختصاص بالنظر فيها ولو لم ترتكب داخل أراضيها أو يقرفها مواطنوها. كما قد يكون من المفيد التفكير في إمكانية إدخال هذه الجريمة بشكل أو بأخر في نطاق اختصاص المحكمة الجنائية الدولية لما فيها من مساس شديد بمشاعر ومعتقدات أعداد كبيرة من البشر, فضلا عن احتمالية تهديدها للسلم والأمن الدوليين. ومع الإدراك الكامل لأبعاد هذه الجريمة من ناحية كونها تهدف إلي نشر البغضاء بين أبناء الوطن الواحد من اتباع الديانتين السماويتين الكبيرتين. أقول إنه مع هذا كله فإن رد الفعل الذي مارسه بعض المتظاهرين أمام السفارات والقنصليات ومقار البعثات الدبلوماسية الأمريكية في عدد من الدول العربية والإسلامية, والذي بلغ ذروته في اقتحام القنصلية الأمريكية في بني غازي واغتيال السفير الأمريكي وثلاثة من مواطنيه فيها, واقتحام السفارة الأمريكية في اليمن, وإحراق السفارة الألمانية في السودان, واعتلاء سور السفارة الأمريكية في القاهرة وإنزال العلم الأمريكي عنها. هو مما يتنافي وأحكام القانون الدولي المعاصر, فضلا عن مخالفته لأحكام الشريعة الإسلامية الغراء في ذات الوقت. فلقد قررت المادة22 من اتفاقية فيينا للعلاقات الدبلوماسية لعام1961, والتي تلتزم بها جميع دول العالم, حماية كاملة لمقر البعثة الدبلوماسية وبحيث تترتب المسئولية الدولية في كنف دولة المقر أي الدولة المستضيفة إذا تقاعست عن تقديم الحماية اللازمة لهذه المقار, خصوصا إذا وقعت أضرار بمقر البعثة نتيجة لمظاهرات مثلا. كما قررت المادة29 من ذات الاتفاقية حماية كاملة للمبعوث الدبلوماسي من أي اعتداء علي شخصه أو حريته أو كرامته. وقررت المادة31 من اتفاقية فيينا للعلاقات القنصلية لعام1963 وجود التزام علي عاتق الدولة المستضيفة باتخاذ الإجراءات المناسبة لمنع اقتحام المقار القنصلية أو الإضرار بها ولمنع المساس بسلامة البعثة القنصلية أو الاقلال من كرامتها, وقررت المادة40 منها وجوب أن تتخذ الدولة المستضيفة الإجراءات المناسبة لمنع أي اعتداء علي أشخاص الموظفين القنصليين أو حريتهم أو كرامتهم. أما الشريعة الإسلامية فقد سبقت في هذا حين قرر النبي صلي الله عليه وسلم قبل ألف وأربعمائة عام في حديثه لرسولي مسيلمة الكذاب أنه لولا أن الرسل لا تقتل لضربت أعناقكما وهكذا فقد جرت سنة النبي بعدم قتل رسل ومبعوثي الدول الأجنبية حتي ولو استخدموا ألفاظا جارحة يعاقب عليها الشخص العادي. وهكذا فإن التعامل مع مثل هذه الجرائم لا يكون باقتحام السفارات والقنصليات, ولا بالاعتداء علي أشخاص السفراء والقناصل والمبعوثين الدبلوماسيين, أو حتي الأجانب العاديين الذين يدخلون بلادنا بشكل قانوني بما يمثل عهدا بيننا وبينهم يستوجب حمايتهم. وإنما بوسائل أخري من بينها وهو ليس أهمها بالضرورة التظاهر السلمي للتعبير عن الرفض والغضب, واتخاذ الإجراءات القانونية بحق مرتكبي مثل هذه الجرائم, وحسنا فعلت الرئاسة المصرية حين كلفت السفارة المصرية في واشنطن باتخاذ جميع الإجراءات القانونية الممكنة لملاحقة المسئولين عن انتاج هذا الفيلم المسيء, وسيكون حسنا أن تفكر جامعة الدول العربية ومنظمة التعاون الإسلامي ومؤسسات الدولة المصرية المعنية في الدفع نحو عقد اتفاقية دولية عامة لتجريم ازدراء الأديان والعقاب عليه, وفي إدراج هذه الجريمة في نطاق ما يعرف بالاختصاص العالمي وفي اختصاص المحكمة الجنائية الدولية كما تقدمت الإشارة.